دمشق - هدى العبود
واقع مأساوي معيش في سورية، صور بدقة متناهية من خلال أقلام الكتاب، ترجمه المخرجون ببراعة كان باكورتها مسلسل «مال القبان» الذي عرض في رمضان الماضي، اسم على مسمى، والسؤال هنا «هل مال القبان فعلا أم مال الزمان؟!» لعل الإجابة السائدة المنتشرة هي «أن الله سبحانه تعالى خلقنا درجات»، والسؤال الذي يطرح نفسه «ترى لو تم تحرير كل العبيد مرة واحدة هل سيختل المجتمع بظهور المئات أو الآلاف من الرجال والنساء فجأة بغير عمل ولا عائل فيلجأون إلى السرقة أو السطو للتكسب؟» وهذا الجواب إن كان صحيحا عقلا ومنطقا إلا أن فيه بعد نظر عن تصور الوضع في واقعه فضلا عن تخيله.
ما أسلفناه حملناه إلى الناقدة الإعلامية رند سلامة التي وصفت مضمون «مال القبان»، بأنه قسوة واقع حال السوريين اثر الحرب الطاحنة التي ألقت بمصائبها على رقاب أبناء وطنها، وقالت لـ «الأنباء»: ترفع القبعة للدراما السورية لما قدمته من دراما واقعية غاصت بالأرواح المدفوعة للظلم والقهر والتشرد، وصولا إلى مشاهدة اللحم الأبيض يباع بأرخص الأثمان على الأرصفة ليلا، جسد ذلك من خلال عمالقة الفن السوري، فالكبير بسام كوسا قدم شخصية «نعمان الزير» الفقير المضطهد المقهور المكسور بأداء المنتقم من أقرب الناس اليه، والدته، يضاف إلى تسلقه على حبال الشره للمال فيتزوج من امرأة حامل ويتبنى طفلها، والهدف الجري واللهاث وراء المال والانتقام من «آل جبر» دون أن يفكر يوما بأن الأنساب مصونة ولا يجوز الاقتراب منها، يشاطره الألم الطفل الذي ولد ميتا عندما قذف به إلى «داية» في الحارة لتربيه وترحل ويرحل معها معرفة نسبه (جسد الشخصية الفنان سليمان رزق ببراعة بدور أبو الرموش)، لينتقل طفلا مشردا إلى عالم «سوق جبر» للعيش بين شريحة مجتمعية تعاني من تدني الطباع والنفس الطماعة، والعين الجائعة.
وتابعت سلامة: تحرك الاحداث ثارات قديمة تمثلت بشخصية «أبو عمار الجبر» شيخ الكار (نجاح سفكوني) الوارث السوق أباً عن جد، ونعمان الزير (بسام كوسا) الآتي إلى هذا العالم برعاية والدته بعيدا عن رعاية والده الشرعي، ومع هذا نهض هو ووالدته من بين الركام، لكن تشاء الأقدار ان يعجب بوالدته كبير السوق (نعمان الملقب بأبي عمار)، فعمد إلى إغراء زوجها بالمال لتطلق منه، لكنه لم يأت من الباب كما يقال بل جاء من الشباك لترفضه، وهنا نجد صراعا كبيرا يعيشه الابن الذي لم يصدق أن والدته صانت شرفها.
وأضافت سلامة: من يتمعن باسم المسلسل «مال القبان» يدرك ان الحياة لم تتوقف عند كبار السوق ومصالحهم، بل يشاهد أثمانا باهظة دفعت بين مفارقات طبقية كبيرة، والقصد الفارق بين سيد السوق وطبقة العتالين الفقراء «المعترين»، وصولا إلى الدعارة المجبرة عليها حنين (روبين عيسى) والتي تعرضت لظلم وقهر أوصلها لمكان لا تحسد عليها، ومع هذا لم تكن مبتذلة، يقابلها ابنة كبير السوق نعمان الزير نوراة (حلا رجب) عندما أصبحت تسهر في البارات وتقدم نفسها بمناظر مغرية على مواقع «السوشيال ميديا»، لينتقل الكاتب والمخرج إلى مناقشة الواقع السوري المأساوي فيقدم لنا بداية الحرب السورية وتداعياتها من خلال تفصيل صغير، لكنه كبير بالمقابل كبير جدا وفي صميم المجتمعات التي تعاني من القلاقل والحروب، عندما ألقت الضوء عليه الفنانة سلاف فواخرجي من خلال شخصية «رغد» الخارجة من السجن، والتي أدى بها الحال إلى الهاوية، وتبين أن المآسي التي لا تنتهي تدمر وتبقى تداعياتها جرح عميق لا ولن ينته.
وختمت سلامة: باختصار «سوق الجبر» نموذج مصغر لما جرى من أحداث مجتمعية عشناها في ظل حرب ضروس لم تقفل أبوابها بعد، من خلال كاتبين (يامن الحجلي وعلي وجيه)، وتصدى للإنتاج شركة «ايبلا» للإنتاج الفني، فقد عاشا تلك الحرب وأحداثها فأبدعا بواقعية النص، وترجمه المخرج سيف سبيعي من خلال مادة درامية غاصت في أعماق المجتمع السوري وتداعيات الحرب، وأستطيع القول إن الدراما السورية فاقت الخيال من خلال الأوضاع التي دفعت لكن الأثمان كانت كبيرة ممزوجة بآثام لا يتخيلها إنسان.