كنت أجلس مع أحد الأصدقاء اليابانيين في الكويت بأحد مقاهي العاصمة، شاب أربعيني خريج أرقى الجامعات، يتحدث عدة لغات، مكث في الكويت فترة طويلة، بعد خروجنا من المقهى، كان لا بد أن نقطع مشوار العاصمة المزدحمة، فإذا بصديقي الياباني يقفز بين السيارات بكل مرونة، ويقف بين الحارتين من نفس الشارع، وكان من خلفه تمر سيارة، وانتظر أن تمر من الحارة التي أمامه سيارة، وأنا أنظر إلى هذا المشهد الذي يستحيل أن تراه في اليابان، لشخص أربعيني أكاديمي، من يفعل مثل هذه الأفعال في اليابان عادة ما يكون من أفراد العصابات، أو شخص طغى عليه الخمر حتى أذهب عقله تماما، هذا الفعل وغيره من المشاهدات من اليابانيين الذين جلسوا فترة في الكويت تدعو إلى التفكير، لماذا يتغير سلوكهم بهذه الطريقة؟!، في حال أردت أن تعبر الشارع في اليابان يجب أن تذهب إلى المكان المخصص لعبور المشاة، وإن كان قليلا في شوارع العاصمة، إلا أنها موجودة، لكن المختلف أن قائدي السيارات في اليابان ملزمون ثقافيا وقانونيا بالوقوف، حتى يمر المشاة، وهذا حسب مشاهدتي الشخصية غير متوافر في شوارع الكويت، وأكاد أجزم أن صديقي الياباني حاول استخدام الأماكن المخصصة للمشاة، ووجد أن قائدي المركبات غير ملتزمين بالخطوط الأرضية، وعرف أنه سواء استخدم الأماكن المخصصة أو لم يستخدمها فالنتيجة واحدة، ومع مرور الأيام تعود أن يعبر الشارع بهذه الطريقة الخطرة، فمهما انتظرت على كتف الطريق في الشوارع المزدحمة فلن يتوقف لك أحد لتمر إلا نادرا، فاكتشف أنه سواء مر من أماكن المرور المخصصة للمشاة أو في أي جزء من الطريق سيان. وهذا ما يسمى بعلم النفس «التنافر المعرفي»، فعندما يكون لدى الفرد قيم قوية في التنظيم والالتزام بالقوانين ثم يجد نفسه في بيئة تسود فيها «المرونة الزائدة» أو التجاوز، فقد يعاني منه، ولتقليل هذا التنافر، قد يبرر سلوكه الجديد أو يتكيف تدريجيا مع النمط السائد، ما يؤثر على شخصيته واتجاهاته الاجتماعية.
بالنسبة لتجربتي ومشاهداتي الشخصية، سافرت إلى اليابان وأنا في السابعة عشرة والنصف من العمر، قبل الذهاب إليها، لا أذكر أني راجعت مراجعات سواء حكومية في الكويت إلا ما ندر، وفيما ندر هذا لم أكن وحدي، بسبب العمر، فكانت أول مراجعاتي في اليابان لشؤون الهجرة والبنوك والمكاتب العقارية كطالب جديد، وتشكل وعيي عن المراجعات هناك، وكذلك بسبب دخولي وتخرجي في المدارس الكويتية المتقدم لأني ولدت في الشهر الثالث، فلم أجرب القيادة بشكل رسمي إلا باليابان، وتشكل وعيي بالمراجعات والقيادة هناك، وفي عمر 26 سنة، عدت إلى الكويت، كانت أول مراجعة لي في إحدى الجهات، أخذت رقما وجلست أنتظر رقمي، لكن الموضوع أخذ وقتا رغم أن قبلي رقما واحدا فقط، وبعد تفكير ومشاهدة عرفت أن الموظف يستقبل الناس دون أرقام، رغم أني متعود على الالتزام المتشدد الياباني بالدور، إلا أنني اضطررت على عدم الالتزام، وإلا لكنت لا أزال منتظرا دوري. عندما تخرج في الشارع وتلزم مسارك، تجد أن السيارات الأخرى تضايقك حتى تدخل قبلك، وإن انتظرت حتى تدخل السيارات التي تضايقك، تجد أن من خلفك يضرب (الهرن) حتى يفقع طبلة أذنك، فأضطر لأن أرد المضايقة بالمضايقة حتى تسلك الأمور. هذه الأمور قد تكون بسيطة، لكنها مع الممارسة اليومية، لا شك لدي أنها تصبح جزءا من شخصية الفرد، ومن ثم جزءا من شخصية المجتمع.
وفقا لنظرية بانديورا، يتعلم الأفراد السلوك الاجتماعي من خلال الملاحظة والمحاكاة ثم التعزيز. فحين يرى شخص ما أن الجميع يتجاوز الدور أو لا يلتزم به، وأن النظام لا يطبق بصرامة، يتكيف عادة مع هذا النمط حتى لا يخسر وقته أو فرصته. هذا التعلم اليومي يتراكم ليصبح سلوكا مألوفا ينعكس على شخصية الفرد وتعاملاته، وينعكس هذا على التعاملات اليومية في المجتمع، وطريقة حل مشاكله على أساس «أنا ومن بعدي الطوفان».
بالحديث عن اليابان تناول يوشيو سوغيموتو في كتابه «مدخل إلى المجتمع الياباني» موضوعا مهماً حول أهمية النظام والانضباط في الحياة العامة اليابانية، إذ أكد أن احترام الدور والالتزام بالقواعد في المواصلات والدوائر الحكومية يعزز مشاعر الانتماء الجماعي (Collectivism) ويشجع على تطوير ما يعرف بـ «المسؤولية المشتركة»، فهذه التصرفات التي قد نراها بسيطة، إلا أنها تفقد الفرد الإحساس بهذه المسؤولية. والذي يتجاوز لا شك أنه يحصل على مكاسب مؤقتة، لكن على المدى الطويل خسران.
tab6_khayran@