لعل التاريخ في أنصع صفحاته لم ينجب أمة عرفت قيمة الاختلاف كما عرفتها الأمة الإسلامية في عصر ازدهارها العلمي والفكري، فتأمل مجالس بغداد والكوفة، وانظر إلى مناظرات المتكلمين والفقهاء، كيف كانت تعج بالحياة لا بالخصام، وبالطرح لا بالضجيج، الاختلاف بين «العقلاني» و«الظاهري»، بين من يحتكم إلى المنطق وبين من يقف على ظاهر النص، لم يكن سببا في تشرذم الأمة بل كان مدادا لنهضتها، فمن رحم هذا الجدل الشريف، خرجت مدارس كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، لا تسب بعضها، ولا تقصي أحدها، بل تراها تتناظر في محاريب العلم بأدب العلماء، حتى إذا ما سمعت رأي أحدهم ظننته الصواب، ثم تسمع من الآخر فتميل إليه بصدق الحجة وجمال البيان، وربما جلست حائرا بينهما، لكن حيرتك تلك لم تكن عن جهل، بل عن ثراء فكري يحيي العقول، وخلاف محمود ينمي المدارك.
أما اليوم، فربما يحزن المرء - بل يفجع - حين يرى الاختلاف وقد تحول من ميدان الفكرة إلى مهاترة حول المبادئ نفسها، لم يعد الخلاف على تأويل نص أو فهم حادثة، بل أصبح على ما لا يفترض أن يختلف عليه أصلا، الظلم والعدل، الحرية والاستبداد، الإنسانية والمهانة، لعلنا نرى من يبرر القمع، ويسوغ الطغيان، ويروج لصوت الجلاد، لا عن علم، بل عن علة في النفس أو خلل في البصيرة، أو نقص أخلاقي.
هنا لا يعود الاختلاف فضيلة بل يصير انحدارا، ولا يصبح الحوار جسرا بل يصبح نفقا يسكنه الباطل، وهل يقبل الاختلاف في الكرامة، وهل تحتمل الإنسانية وجهتي نظر؟ وهل تناقش الرحمة كما تناقش الفروع الفقهية؟ إنها القيم التي لا تقبل أنصاف الحلول، ولا ينبغي لها أن تكون مادة للجدل.
ربما آن لنا أن نعيد لهذا المفهوم طهره وأصله، فليكن الاختلاف اختلاف عقول تبحث لا نفوس تهدم، اختلاف رؤى ترتقي لا غايات تبرر الوسيلة، لعل الأمم لا تنهض حين تتشابه العقول، بل حين تتحاور، وحين لا تنقلب أدوات التفكير إلى أسلحة طعن، ولا تستنزف الطاقات في مجادلات حول ما لا يجادل فيه، فعسى أن نفهم أن الاختلاف في الرأي يسند الوعي، أما الاختلاف في القيم فيقوض الأساس، ويجعلنا نرتع في التخلف والتناحر.