حين نتأمل «الروبوت» الذي صنعه الإنسان ونقف أمامه لبرهة، يمر علينا شريط رحلة الإنسان عبر التاريخ وكيف وصلنا لصنع مثل هذا، فندرك أن التطور لم يكن سوى سلسلة محاولات دؤوبة لترويض الطبيعة وصناعة الراحة.
فمنذ أن أشعل الإنسان النار ورقص حولها، إلى أن شيد أول جدار يحميه من الوحوش، حين كان الخوف من المرئي - لا خوف من غازات أو مفاعلات - كان ومازال الإنسان يسعى لأن يجعل حياته أكثر أمانا وأيسر مشقة، ومع مرور القرون توالت الاختراعات، من العجلة إلى الطائرة ثم الفضاء الرقمي، قفزات متتالية وكأن البشرية تسابق الزمن لتضع الجسد على عرش الراحة، لعل هذا السعي منحنا جودة حياة لم يحلم بها الأجداد، ولكنه في المقابل فتح فجوة في عمق الروح.
التطور أراح الجسد، ولكن لم يملأ القلب، فالراحة وحدها لم تكن يوما مرادفا للسعادة، كم من بطل في التاريخ لم يعرف الدعة، ولكنه حقق المجد، وكم من عالم قضى الليالي في العناء، ولكنه وجد لذة في البحث، حتى في حياتنا اليومية، نرى أن الساعي لهدف عظيم يجد في التعب نشوة وفي الكفاح سعادة لا تقدرها وسائل الراحة الحديثة.
بات التطور يمد الجسد بما يشتهي، لكنه أقفل على الروح أبوابها، فامتلأت النفوس بالمادة والمال وحب الشهرة، لكن فراغ الروح بقي شاهدا، يمثله بعض المشاهير بسعيهم بشتى الوسائل للانتحار بالسعي خلف كل مخدر لتلك الروح، أو خروج عن المألوف وإن كان فيه إتلاف الروح والجسد، وهنا يظهر السؤال الكبير «كيف تمتلئ الروح؟» وكيف يتوازن الإنسان بين جسده وروحه فلا يطغى أحدهما على الآخر؟
لعل الإجابة لا يحملها قلم واحد ولا عقل واحد، فالبعض يجد التوازن في الإيمان، وبعضهم في خدمة البشرية، وآخرون في الفن أو في البحث عن المعرفة، لكن الأكيد أن الروح لا تشبعها السلع، بل هي تتغذى وتسعد بالمعاني التي نعيش لأجلها ونسعى لها ونسخر لها كل طاقاتنا الجسدية والروحية، وإن خدعنا أنفسنا بإطعام الروح من أطباق التطور الشكلي أو المادي سيصبح التطور قشرة لغالب خرب.
يعلمنا التاريخ أن الحضارات لم تضئ على بريق الجسد، بل على شعاع الروح، فمن بنى الأهرامات لم يكن يبحث عن الراحة بل عن الخلود، ومن أبحر في المحيطات لم يكن يسعى إلى متعة عابرة بل إلى اكتشاف يغير العالم.
وهكذا يبقى التحدي قائما، أن نطور أجسادنا دون أن نهمل أرواحنا، ففي لحظة التوازن بين الجسد والروح يستنشق الإنسان معنى السعادة، ذاك المعنى لا تمنحه الآلة ولا الثروة، بل هو بعبير الحب ولون الانتماء وطعم المحاولة، حتى نعيش إنسانيتنا الكاملة.