«في مرحلة الشباب، من يختار أكل المرارة يختار جني الثمار أيضا. من ذاق مرارة الكد الوقت سيكافئه بحلاوة الحصاد».
بهذه الكلمات خاطب الرئيس الصيني شي جينبينغ الشباب قبل أسابيع، مستحضرا فلسفة عميقة متجذرة فـي الوجـدان الصـيني تعـرف بـ «أكل المرارة».
هذه الفلسفة لا تفهم في إطارها الحرفي، بل هي تعبير ثقافي عن الصبر، والتحمل، والعمل الشاق، حتى قيل في المأثور الصيني: «من يستطع أكل أقسى المرارة يصبح فوق الناس»، فهي تختصر رؤية ترى في المعاناة معبرا لا مفر منه نحو المجد.
ترسخ هذا المبدأ خلال السنوات (1840 - 1949) حين تعرضت الصين في هذه المرحلة للاحتلال والتفكك. ولد ذلك قناعة جماعية بأن الأمة لا يمكن أن تنهض إلا إذا تحمل أبناؤها الحرمان. ومع تأسيس الجمهورية الشعبية عام 1949، استخدم المفهوم سياسيا: دعا ماو تسي تونغ الشعب إلى الصبر على الفقر والتضحية بالراحة الشخصية لبناء الاشتراكية. وفي عهد دنغ شياو بينغ، اتخذ بعدا عمليا مباشرا عبر شعار: «تحملوا المشقة اليوم لتكسبوا الغد»، وهو ما مهد لثورة الانفتاح والإصلاح الاقتصادي.
اليوم، تستثمر القيادة الصينية هذا الإرث في بناء وعي وطني جديد. فالشباب مطالبون بالدراسة المتواصلة والعمل لساعات طويلة، وتقديم التضحيات الآنية في سبيل مستقبل أفضل. ويربط هذا السلوك بمفهوم «الحلم الصيني»، أي استعادة المكانة العالمية للصين. بهذا المعنى، تحول «أكل المرارة» من قيمة فردية إلى إستراتيجية قومية تسخر لنهضة الأمة.
الإيجابية هنا واضحة: تحويل الألم إلى طاقة، والمعاناة إلى هوية مشتركة، ما يجعل المجتمع أكثر قدرة على التحمل والتماسك. ولعل هذا ما يفسر الانضباط الصيني وإصرار أبنائه على بلوغ أهداف بعيدة المدى، حتى وإن بدت مستحيلة.
لكن الوجه الآخر لا يقل أهمية: إذ يؤدي الإفراط في «أكل المرارة» إلى ضغوط نفسية واجتماعية هائلة. يسجل في الصين واحد من أعلى معدلات الإرهاق المهني وظاهرة «العمل حتى الموت» التي تشبه ما يعرف في اليابان باسم (karoshi). كذلك، يتنامى بين الشباب ما يسمى «ثقافة الاستلقاء» (tang ping)، أي رفض سباق العمل المفرط، ما يعني أن فلسفة الصبر قد تتحول من قوة إلى عبء إذا لم توازن بحقوق الفرد وراحته.
فلسفة «أكل المرارة» ليست حكرا على الصين. في الثقافة الغربية، نسمع شعار «No pain، no gain» (لا مكاسب بلا ألم)، وهو يعكس عقلية مشابهة في ربط النجاح بالتعب. وفي التراث الإسلامي نجد إشادة بالصبر والزهد، وكما تقول الآية الكريمة (فإن مع العسر يسرا)، وأما في الفكر البوذي، فالمعاناة جزء أصيل من الوجود، غير أنها تواجه بالتأمل لا بالكد العملي فقط. هذه المقارنات تكشف عن أن فكرة «أكل المرارة» تمثل بعدا إنسانيا عالميا، لكن الصين وظفتها سياسيا واجتماعيا على نطاق لم يسبق له مثيل.
إذن، «أكل المرارة» في الصين ليس مجرد استعارة عن الصبر، بل هو سياسة موجهة ثقافية - اجتماعية أنتجت أمة قوية منضبطة، لكنها في الوقت نفسه خلقت تحديات إنسانية واجتماعية لا يمكن تجاهلها. الصين اليوم مثال حي على قدرة الشعوب على تحويل الألم إلى نهضة، لكنها أيضا إنذار حول خطورة إغفال الجانب الإنساني للفرد في خضم مشروع الأمة، فالتاريخ لا ينهض فقط على العرق والتضحيات، بل أيضا على قدرة المجتمعات على تحقيق التوازن بين المرارة التي تبنى بها الأمم، والحلاوة التي بها يستمر الإنسان.
Tab6_khayran@