عندما تدرك أخيرا أن سلوك الآخرين يرتبط بصراعاتهم الداخلية أكثر من كونه متعلقا بك، فعليك بتعلم الترفع والتغافل، ولو تأملت مليا، وجدت لذلك حكمة وهي ألا يكون العاقل في مقام، رد الفعل، ويصبح صانعا للفعل. ولتمتين هذه الفكرة يأتي النصح بأن يتغافل الإنسان عن بعض الأشياء، ويتجاوز أخرى، واليوم أقف مع التغافل، ولا شك أن الغفلة مذمومة، ولكن تكلفها محمود.
يكاد المتقدمون والمتأخرون يجمعون على أن التغافل في معانيه المتفرقة سلوك تصعب دونه المعيشة، وتتحول في غيره الحياة إلى ضنك، ذلك أن عدمه يلجئ المرء إلى تتبع الصغائر، ومجاراة الأمور بلا نهاية، حتى إنه دون أن يدرك ليصلن بالأمور إلى أقصاها، وهو ما ينهى عنه أهلنا إلى اليوم في أمثالهم «لا تصل بالأمور لأقصاها»، وهذا يحتاج إلى تملك فن «التغافل».
ومن أعرض عن التغافل، وقع في تتبع الأخطاء، وانغمس في وحل الصغائر، وغرق في بحر التوافه، فلا ارتاح ولا أراح، وسكب الملح على الجرح، فلا تدقيقه أنجاه ولا حرصه أعطاه.
لا غرو أن يعتبر الجاحظ، محمد بن علي بن الحسين، جمع صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين، بقوله «صلاح شأن جميع التعايش والتعاشر، ملء مكيال: ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل»، يضيف الجاحظ: «فلم يجعل لغير الفطنة نصيبا من الخير، ولا حظا في الصلاح، لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شيء قد فطن له وعرفه». وينسب إلى معاوية وغيره إن «العقل مكيال، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل». لنا أن نتغافل عن أصله، ما دام معناه بينا واضحا، فمن تمام هذا الفن، الترفع عن الصغائر، ما دام المقصود حصل.
التعريفات لتكلف الغفلة تتزاحم من القديم، والعجيب أن كلها محمود.
يقول الشاعر:
تغافل في الأمور ولا تناقش
فيقطعك القريب وذو الموده
مناقشة الفتى تجني عليه
وتبدله من الراحات شده
والإنسان يألف ويؤلف، ومع كم تلك العلاقات التي قد تكون بعضها هبة من الله ونعمة، والتي يعد بعضها درسا وابتلاء وأذى، كل بحسب طبيعته وتربيته، فقد خلق الله الناس من ماء وطين، بعضهم غلب ماؤه طينه فصار نهرا، وبعضهم غلب طينه ماءه فصار حجرا، والتي يكون الشخص حينها في حيرة من أمره كيف يتعامل مع تلك العلاقات، سواء كانت ذات قرابة أم لا؟!
فعليك التظاهر بالغفلة أو تعمدها، وأن تترفع عن الصغائر، ولا تركز على اصطياد السلبيات، فهو فن راق لا يتقنه إلا محترفو السعادة، وقد قالت العرب قديما:
ليس الغبي بسيد في قومه.. لكن سيد قومه المتغابي (أي المتغافل).
والعقلاء يحمدون للرجل العاقل تغافله، لأنه لم ينشغل بتوافه الأمور.
تأكد أنك قد لا تستطيع تغيير سلوك الآخرين كما تريد أنت، ولكن التحدي الحقيقي هو أن تغير نفسك قبل أن تطلب من الآخرين تغيير أنفسهم، فتصبح الشخص الذي يريده الله، هذا سلوك العظماء والمتميزين.