كثير من الناس يقحمون أنفسهم في ما لا يعنيهم، ويتدخلون في قضايا لا تمتّ لهم بصلة، لا من قريب ولا من بعيد. يتكلمون بجرأة مفرطة في مواضيع لم يتدارسوها، ولم يحيطوا بها علما، ولم يمهدوا لها بالبحث أو الاطلاع أو التأمل العميق، فتخرج آراؤهم هشة، غير ناضجة، أشبه ما تكون بالارتجال الطفولي، ينقصها التوازن والحكمة، وتفتقر إلى سند معرفي أو تأصيل منطقي.
وما إن ترى هذه الآراء النور وتصطدم بجدار الواقع الصلب، حتى تتكسر شظاياها على مرأى ومسمع من الجميع، فتنهال الردود الناقدة، وتتوالى الضربات من كل اتجاه: من أعلى ومن أسفل، من اليمين ومن الشمال، فيجد صاحب الرأي نفسه ممددا على أرض الخيبة، منكشفا أمام سيل من الاعتراضات المنطقية والآراء الراسخة التي تفضح ضحالة طرحه.
ذلك أن إبداء الرأي، في ذاته، مسؤولية لا يقدر عليها إلا من امتلك أدواتها: معرفة راسخة، واطلاعا واسعا، وقدرة على التحليل والتفكيك والتركيب، أما من أطلق لسانه دون وعي، وسمح لكلماته بأن تتجاوز حدود علمه، فإنه يسيء من حيث أراد أن يفيد، ويهدم من حيث توهم أنه يبني.
ولم يأت القول المأثور «إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب» من فراغ، بل هو خلاصة تجربة إنسانية عميقة تدعو المرء إلى أن يحكم زمام لسانه، وألا يستجيب لنزواته الكلامية في كل موضوع يعرض أمامه. وفي هذا المعنى قال الشاعر العربي ببلاغة لاذعة:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم؟
ولا نبالغ إن قلنا إن شخصية «أبو العريف» ـ المنتشرة في مجتمعاتنا ـ باتت من أبرز صور الاستعراض المعرفي الزائف. تجده حاضرا في كل مجلس، لا يدع موضوعا إلا خاض فيه، ولا مسألة إلا وادعى الخبرة بها. يتحدث عن الطب وكأنه الطبيب النطاسي، وعن الفلسفة وكأنه فيلسوف أثيني، وعن الفيزياء كأنه ستيفن هوكينج، ويستعرض مفردات من لغات لا يحسن منها شيئا سوى اللفظ المشوه.
إننا اليوم في زمن تعقدت فيه المعارف وتشعبت، ولم يعد من الممكن لشخص واحد أن يلم بكل شيء، ولا أن يجيد كل فن، فقد خلقنا الله متفاوتين في العقول، متباينين في المدارك، مختلفين في الهبات، ليكمل بعضنا بعضا، لا ليتطاول بعضنا على بعض.
واذا كان من سبقونا قالوا انه اذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب، فإن هذا القول البليغ لهو مبدأ راسخ لمن اراد ان يتجنب الخطأ والزلل.
وفي النهاية، فإن خير الكلام ما قل ودل، لا ما كثر وضل. ولنحذر أن نكون ممن يضللون الناس بآرائهم، أو يربكونهم بمعلومات مشوهة، فنكون ـ دون أن ندري ـ معاول هدم بدل أن نكون أعمدة بناء.