دخل رجل على الأمير المجاهد قتيبة بن مسلم الباهلي يحمل في وجهه رجاء وفي قلبه حاجة، لا يعلم أحد ما حمله عليها من هم أو ضيق. وقف بين يدي الأمير، وبدأ يعرض مسألته، وكان نصل سيفه متدليا، لا ينتبه لمكانه، حتى استقر على اصبع قدم الأمير، وجرحه.
ورغم أن الألم قد بلغ موضعه، إلا أن الأمير ظل كما هو، يستمع بكل هدوء، لا يقطب حاجبا، ولا يغير جلسته، ولا حتى يشير إلى ألمه.
وجلسته المهيبة عامرة بالرجال، لكن أحدا لم ينبس ببنت شفة. كانت الهيبة تملأ المكان، لكن ما كان يملأ قلب قتيبة شيء أعظم من الهيبة، كانت الرحمة.
انتهى الرجل من حاجته، وانصرف لا يدري ما صنع سيفه، ولا ما سال من دم. ثم دعا الأمير بمنديل، فمسح دمه، وغسل جرحه في صمت.
قالوا له: «ألا نحيت رجلك أصلحك الله؟ أو أمرت الرجل برفع سيفه عنها؟»، فقال بكل سكينة: «خشيت أن أقطع عنه حاجته».
ما أعمقها من عبارة!
لم يكن يهمه أن ينقذ نفسه من ألم لحظي، بل خشي أن يحرم ذلك الرجل من حاجته، خشي أن يربك قلبه أو يبعثر كلامه فيضيع منه طلبه الذي أتى به، ربما من مسافة بعيدة، وربما وهو يحمل الأمل الأخير.
هكذا تكون القلوب العظيمة، لا تضع كرامتها موضع الاستعلاء، بل في موضع التحنن والتواضع، وتعرف أن لحظة ألم يسيرة لا تساوي شيئا أمام إكرام إنسان.
قتيبة، القائد، الأمير، المجاهد، غرز في رجله نصل، وسال دمه، لكنه أبى أن يحرج رجلا وقف بين يديه بحاجته.
أراد أن يعطيه الشعور الكامل بالأمان والقبول والكرامة، وأبى أن يشعره بأنه آذاه أو أساء إليه دون قصد.
تأمل كيف أن العظمة ليست في رفع الصوت، ولا في الصدارة، بل في القدرة على كتم الألم حين يكون كتمه رحمة بالضعيف، وفي ضبط الرد حين يكون الرد كسرا لقلب لا يحتمل.
في هذا المشهد لا نقرأ فقط قصة شهامة، بل نقرأ درسا في فن الرحمة، في آداب القوة، في هيبة التواضع، في بلاغة الصمت الذي ينقذ الأرواح.
إن كثيرا من الناس يملكون السلطة، أو المنزلة، أو الجاه، لكنهم لا يملكون نفوسا رحيمة مثل هذه تتسع لحاجة الآخر حتى لو سال الدم في سبيل ذلك.
أما قتيبة، فكان من أولئك الذين يديرون القوة بالحكمة، ويحكمون العدل بالإحساس، ويعرفون أن الإنسان أكرم من موضع قدميهم، وأن حاجته فوق ألمهم العابر.
فيا ليتنا نتعلم أن نصغي بحضور لا يؤذي، أن نحتمل ما نقدر عليه إن كان فيه جبر خاطر، ألا نعكر على أحد سعيه، ولا نثقل على محتاج بطلبنا للهيبة أو الاحترام.
لأن القلوب العظيمة لا تحتاج أن ترفع صوتها لتحترم، يكفي أن تنزل الحنان منزلته، وتضع للإنسان كرامته، ولو كانت أقدامها تنزف في الخفاء.