سورة يوسف ليست مجرد قصة، بل مرآة صافية تنعكس عليها أعماق النفس البشرية بكل تناقضاتها: الحب والغيرة، الحسد والصبر، التآمر والصفح، الخيانة والإحسان، السقوط والسمو. إنها سورة العزاء للمظلوم، والتقويم للظالم، والنبراس لكل من أراد أن يسير نحو العلو من دون أن يطأطئ رأسه للمكائد أو يغمس قلبه في السواد.
علمتنا هذه السورة أن العلو الحقيقي لا يبنى على أنقاض الآخرين، ولا تشيد أركانه على ظهر المكر والخديعة، ولا يثمر عن قلوب امتلأت بالحسد والرغبة في إقصاء الطاهرين.
فالحقيقة لا تموت، مضى إخوته وهم يتآمرون عليه، ألقوه في غياهب الجب، ظنا منهم أن الليل سيبتلع ضوءه، وأنه سينطفئ بين الصخور الباردة، ولكن الحقيقة لا تدفن، هي تؤجل أحيانا، تتخفى تحت ركام الظنون.
فبعد أعوام طويلة من الفراق، ظهرت الحقيقة وجاءت لحظة الانكشاف، وسقط القناع عن الوجوه التي سكنت خلفه سنينا، الأيدي التي امتدت يوما بغل وعدوان، لتلقي يوسف في الجب، هي ذاتها التي عادت تمتد، لكن لا بالعدوان هذه المرة، بل بالتوسل والاستعطاف.
ما أبلغ المشهد! يد الظالم التي اعتدت، ها هي اليوم ترتجف، تتوسل، تستجدي من نفس سامحت ولكنها لم تنس.
يوسف لم ينتقم، ولكنه لم ينكر الحقيقة، ولم يزين القبح، لكن علمهم أن للعدل مقاما.
وأن من يسعى للرفعة على حساب غيره، إنما يبني مجده المزعوم على رمال متحركة، تهوي به عاجلا أو آجلا، الإخوة أرادوا أن «يخلو لهم وجه أبيهم» بنفي يوسف، فماذا حصدوا؟! عاشوا عمرا مشوبا بالخوف، بالذنب، بالريبة.
الرفعة ليست في إزاحة الآخرين وإبعادهم، فلقد أبعدوه ليخلو لهم وجه أبيهم، ظنا منهم أن محو يوسف من حياتهم سيجلب لهم السعادة، لكنهم نسوا أن القلوب لا تجبر بالقوة، وأن المحبة لا تنتزع بالحيل. وما دروا أن الله كان يهيئ ليوسف قدرا عظيما، وأن البئر التي ألقوه فيها كانت بداية طريقه نحو العز والتمكين.
وان الظلم قد يطغى، وقد يتمادى، لكن نهايته محتومة، لأن عدل الله لا يعجل ولا يهمل، الذين ألقوا يوسف في الجب عادوا إليه أذلاء، لا لأن يوسف اشتكى، بل لأن العدل الإلهي لا ينام.
يوسف لم يكن نبيا عاديا، كان قلبه سماء تمطر عفوا، ولكنها لا تنسى السحب السوداء التي مرت بها، لم يقل لإخوته: «لم تفعلوا شيئا»، بل قال:
(لا تثريب عليكم اليوم)، أي: نعم، فعلتم، ولكنني أرفع عنكم اللوم اليوم.
سورة يوسف لا تقرأ لطلب الفرج فقط، بل لفهم قانون الارتقاء، وإن خذلك القريب، وتآمر عليك الأخ، وظلمك من لا تتوقع، واشتد الظلم من حولك.
تعلمنا القصة أن العلو الحقيقي لا تصنعه المكائد وان الحسد طريق إلى الظلم، وأن الظلم لا يدوم. فمن أراد أن يبعد غيره ليأخذ مكانه، قد يجد نفسه في النهاية نادما، كما ندم إخوة يوسف عندما قالوا: (تالله لقد آثرك الله علينا).