في لحظة من لحظات التاريخ، حين كانت الشمس تميل إلى الغروب فوق جدران القسطنطينية، كان العدو يحشد جيوشه خلف الأسوار، يطرق الأبواب طرقا لا يحتمل التأويل، ومع ذلك، في قلب المدينة، حيث كانت القلوب من المفترض أن تنبض بالخوف أو استخدام الحكمة أو حتى الحذر، انشغلت العقول بسؤال واحد: «ما جنس الملائكة؟»، «هل هم ذكور أم إناث؟»، أو حول حجم إبليس «هل هو كبير أم صغير؟»، أسئلة جدلية صادرة عن إنسان، كأنه هارب من خشبة مسرح عبثي، لا من رحم الواقع المشتعل.
هذا هو «الجدل البيزنطي»، هو النقاش العقيم حول قضايا تافهة بلا فائدة، أو طرح الخلافات التي لا جدوى منها أو التي تتناول تفاصيل غير مهمة وبعيدة عن الواقع، أو تتعارض مع الأولويات الأساسية، هو ذلك الرمز الذي تسلل من كتب التاريخ إلى وجداننا، لا كحكاية قديمة بل كمرآة صقيلة نرى فيها وجوهنا حين نضيع، حين نؤثر السفسطة على الفعل، ونتعلق بالتفاصيل الهامشية بينما تنهار المعاني الكبرى من حولنا.
هل نحن مختلفون عن أولئك الذين تساءلوا عن عدد الأرواح التي يمكنها أن تقف على رأس إبرة، بينما كانت أرواح حقيقية تزهق خارج الأسوار؟
ألا نجد في حياتنا، وفي مجتمعاتنا، وفي مجالسنا، آلاف الصور لهذا الجدل الذي يبدو بريئا من الخارج، لكنه خذلان صامت للزمن وللضرورة وللإنسان؟
نتجادل: من الأحق؟ من الأجدر؟ من الأنقى؟ ومن ومن.. إلخ.
من الذي يمتلك «الحقيقة» الكاملة؟ وكل يتمترس خلف منبره أو منصته أو شاشته أو قناعاته، يرفع صوته لا ليسمع، بل ليسكت.
نختلف في الصياغة، ونتجاهل المضمون، نركض خلف الشكليات، وننسى القيم التي تجمعنا، نمجد اللغة ونهمل المعنى، نفتن بالمصطلحات، ونهمل الوجع والشعور الإنساني الذي لا يحتاج تعريفا.
«الجدل البيزنطي» ليس فقط حادثة وقعت في ماض بعيد، بل هو لعنة الحاضر حين يفقد الإنسان إحساسه بالبوصلة، هو عندما ننشغل بتلميع المرايا، بينما النار تلتهم البيت، هو عندما نسكت الضمير باسم العقل، ونجهض الفعل باسم النقاش.
وفي كل لحظة نختار فيها أن ندير ظهورنا عن هذا الشعور.
ذلك يعني أن نؤجل القرار، أن نجمد الحقيقة باسم التأني، أن نخرس الصرخة باسم الحكمة.. نكون، بوعي أو دون وعي، نعيد تمثيل مشهد الجدل البيزنطي، لكن هذه المرة، الأسوار ليست حول القسطنطينية، بل حولنا نحن!
فلننتبه! العدو هذه المرة ليس فقط من الخارج، بل يسكن في داخلنا: العدو هو البلادة، هو التسويف، هو التنظير العقيم، هو الهروب المتقن من المواجهة، هو التفاهة المفرطة التي تفتقر إلى العمق والأهمية والقيمة بشكل كبير، مما يؤدي إلى انخفاض الوعي، وتدهور القيم، وانشغال المجتمع بالقشور بدلا من اللب.
قد لا نمنع السقوط دائما، لكن بإمكاننا على الأقل ألا ننشغل بتفاهات بينما الأرض تميد من تحتنا، بإمكاننا أن نكسر لعنة «الجدل البيزنطي»، بأن نستعيد المعنى، وأن نجعل من العقل جسرا لا متراسا، ومن النقاش ضوءا لا دخانا.