ما أسهل أن نحكم، وما أعجل أن نثني!
تبهرنا قشور الصلاح، فنرفع الناس إلى مقام ربما لم يبلغه أنبياء، ونتعلق بمظاهرهم، فننزّههم عما لا ينزه عنه إلا من عصمه الله، نمدحهم كما لو أن الطهر نُقش في جبينهم منذ ولادتهم، وكأنهم خُلقوا بلا ضعف، بلا هوى، بلا احتمال للسقوط.
لكننا ننسى..
ننسى أن الله وحده هو من يعلم السرائر، هو وحده من يعرف كم مرة عصفت بهم الريح، وكم مرة سقطوا ثم نهضوا دون أن يصفق لهم أحد، هو وحده من يرى الداخل لا الخارج، النية لا اللفظ، القلب لا الجبة.
يقول تعالى في محكم التنزيل (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)، فكيف نزكي غيرنا وقد نهينا عن تزكية أنفسنا؟ كيف نرفع العباد فوق مقامهم، وننسى أن الجميع خطاء، وأن الكمال لله وحده؟
نحن بشر.. نحسن في لحظة، ونضعف في أخرى.
نصلي بخشوع اليوم، ثم نغتاب بجهل غدا.
نجاهد أنفسنا أمام الملأ، ثم نخسر المعركة في الخفاء.
فلا التقي تقي على الدوام، ولا العاصي عاصٍ إلى الأبد.
من ظن أن الطيبين لا يخطئون، فقد أساء فهم الطيبة.
ومن توهم أن المتدينين معصومون، فقد ضل عن جوهر الدين.
ومن أصر أن فلانا لا يمكن أن يزل، فقد جعله شريكا في العصمة، والله يقول (ومن يضلل الله فما له من هاد).
دعونا لا نزيّف الوعي ولا نغلّف الناس بقدسية لا تليق إلا بالأنبياء.
فكل من تراهم، مهما بدا لك نبلهم، يملكون زاوية معتمة لا يراها سواهم، وربما يكافحون ليلا جراحا لم يطلع عليها بشر، أو يخوضون معارك ضارية مع نفوسهم، مع رغباتهم، مع أوهامهم.. وربما يسقطون، نعم، يسقطون، لأنهم بشر، لا ملائكة تمشي على الأرض.
وكم من وجه تلوّن بالإيمان وهو يمارس خبثه وطغيانه في الخفاء، وكم من فم رُطب بالقرآن، لكنه لا يرحم ولا يعذر، وكم من قلب يخشى الله في الخلوات، وهو في العلن متهم، مغمور، منسي.
الناس ظاهر وباطن..
وكم من إنسان لم نعره التفاتا، وهو عند الله من المقربين.
وكم من إنسان صنعنا له تمثالا من ورق، وهو عند الله من الخاسرين.
قال النبي ﷺ: «رب أشعث أغبر، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره».
فلنكف عن تنصيب أنفسنا قضاة على أرواح الناس.
ولنكف كذلك عن تلميع صور مزيفة نبنيها نحن، ثم نصاب بالخذلان حين تسقط، مع أنها لم تكن يوما حقيقية.
لا أحد نقي تماما، ولا أحد نجى من الزلل، ولا أحد يصل إلى تمام الهداية إلا برحمة الله، (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء).
فلنترك أمر القلوب لله،
ولنحسن الظن بلا إفراط، ونبقي التزكية جانبا،
فإن من عظّم الخلق بما أظهروا، خسر نفسه،
حين انكشفت له الحقيقة،
أما من عظّم الله وحده، فإنه لا يخذل أبدا.