منذ أن بدأ الواقع الرقمي يزاحم الحياة الواقعية، بدأت مفاهيم كثيرة بالاهتزاز بينها الأخلاق ذاتها. ففي فضاء لا تقاس فيه الأفعال بردود الفعل المباشرة، ولا يلزم فيه الضمير الحي بقدر ما يوجهه الخفاء، تظهر «نظرية الأخلاق الافتراضية» كإطار جديد لفهم السلوك البشري في زمن الخوارزميات.
الأخلاق تختبر في الواقع، بل أمام الشاشات عبر الألعاب والتواصل الرقمي، حيث تمارس سلوكيات دون تفكر أو محاسبة. ففي الألعاب مثلا، يختبر اللاعب حرية أخلاقية لا تشبه واقعه. ووفق دراسة لأوكسفورد (2023)، فإن معظم اللاعبين لا يرون تصرفاتهم داخل اللعبة انعكاسا لقيمهم، رغم اعتراف بعضهم بتأثيرها الواقعي.
لكن أكثر البيئات إثارة للجدل الأخلاقي تظل وسائل التواصل، حيث الهوية قد تكون مستعارة، والمسؤولية مخففة. التنمر الإلكتروني والخداع الرقمي لم يعودا استثناء، بل أصبحا ظاهرة، تغذيها الخوارزميات الباحثة عن التفاعل، لا الحقيقة. ومع ذلك، فالمفارقة أن هذه المنصات ذاتها تستخدم لإطلاق حملات تضامن وإنسانية، مثلما أظهرت دراسة في Social Behavior & Personality عن مشاركة 65% من مستخدمي الإنترنت في مبادرات لدعم القيم الأخلاقية.
ولعل واحدة من أبرز لحظات الانكشاف الأخلاقي في العصر الرقمي تمثلت في فضيحة كامبريدج أناليتيكا، التي أسفرت عن جمع بيانات ملايين المستخدمين دون علمهم للتأثير السياسي عبر فيسبوك. الحادثة أعادت تعريف «الموافقة» كفعل أخلاقي: فهل نقرة على «موافق» تعني فهما حقيقيا؟ أم أنها موافقة مزيفة في بيئة صممت لتغفلنا؟
هنا تبرز المسألة الجوهرية: ما الذي يضبط سلوكنا في بيئة لا قوانين فيها سوى ما تضعه المنصات؟ المسؤولية الأخلاقية التي كانت واضحة في العالم الواقعي باتت أكثر هشاشة على الإنترنت، حيث لا يراك أحد، ولا تحاسب فورا. ولكن التكنولوجيا ليست بريئة ولا مذنبة بطبيعتها، بل أداة يمكن استخدامها لحماية القيم أو النيل منها. فاليوم، تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي للتحقق من الأخبار وكشف المحتوى المسيء، وقد ساهمت بحسب Digital Ethics Lab في تقليص انتشار الأخبار الزائفة بنسبة 45% خلال عامين فقط.
ويعيدنا هذا إلى سؤال جوهري: هل نحتاج لأخلاق رقمية جديدة، أم فقط لاستحضار قيمنا القديمة في ثوب جديد؟ يرى الفيلسوف الإيطالي لوتشيانو فلوريدي أن العالم بات يعيش داخل «الأنفوسفير» مساحة هجينة بين الواقعي والرقمي، تتطلب فلسفة أخلاقية تتجاوز الحدود التقليدية. بينما تحذر الباحثة شيري تركل من أن هذا العالم الرقمي لا يقربنا من بعضنا كما يخيل إلينا، بل يخلق وهما بالتواصل، ويضعف التعاطف البشري الحقيقي.
وهكذا يتجلى التحدي الحقيقي للأخلاق في العصر الرقمي: هل نستخدم هذه التكنولوجيا لنبني علاقة أصدق مع الضمير؟ أم نسمح لها بأن تفرغه من محتواه شيئا فشيئا؟
ليس السؤال إن كانت التكنولوجيا تغيرنا، فهي تفعل ذلك فعلا. السؤال هو: بأي اتجاه؟
Instagram: @hamadaltamimiii