لم تكن بداية البحث صعبة. الخطوط الأولى كانت واضحة، الحماس حاضر، والأسئلة بدت قابلة للإجابة. مضت الفصول بسلاسة، حتى بلغ الباحث الفصل الثالث… ثم توقف كل شيء. الفرضية التي بدت صلبة بدأت تتفكك، والأفكار تتراكم دون أن تبنى، واللغة، التي كانت أداة للفهم، تحولت إلى عبء ثقيل. في هذه اللحظة تحديدا، يصل الباحث إلى ما يسميه بعض أصحاب التجربة بلحظة التبخر العظيم، حيث تتلاشى الرغبة، ويتبخر المعنى، وتتراجع الكتابة دون سابق إنذار.
يتسرب شعور بالعزلة الذهنيـة. ما يقــرأ لا يضيف جديدا، وما يكتب لا يتحرك. محاولات العودة إلى النص تنتهي دائما بإغلاق الملف دون حفظ. العقل متأهب لكنه مشوش، والبحث، الذي كان يوما مشروعا معرفيا، صار مهمة مؤجلة.
في تلك اللحظة تظهر أعراض مألوفة لكل باحث عالق: ترتيب المكتب بدل ترتيب الأفكار، فتح الملف وإغلاقه بعد ثوان معــدودة لأنــه «لا يوجد إلهام»، التفكير الجاد بتغيير التخصص، أو حتى الاقتناع المؤقت بأن تعديل اسم الملف، قد ينقذ المحتوى.
هذه ليست مرحلة فشل، بل المنطقة الرمادية التي لا يخبرك عنها أحد في رحلة البحث. منتصف الطريق: لا حماسة البدايات ولا طمأنينة الخواتيم، بل إرهاق لغوي، وتذبذب ذهني، وإرادة موصولة بشبكة لا يتصل فيها شيء.
لا وجود لحل سحري، لكن هناك ما يشبه خارطة نجاة، أولها التوقف الحقيقي، لا التظاهر بالاستراحة، بينما العقل يفتش عن مخارج في الفقرة التالية. إغلاق الملف فعلا، التنفس خارج النص، والسماح للمسافة بأن تعيد ترتيب الداخل. ثم يأتي صوت الآخر: زميل، أخ، أو حتى صديق بعيد عن المجال - أحيانا جملة واحدة فقط تعيد البوصلة إلى يدك. بعد ذلك، عد إلى البذرة: لماذا بدأت؟ ما السؤال الذي أرقك أول مرة؟ ما الذي كنت تريد فهمه فعلا؟
ولأن التقدم لا يستخرج بالإلهام وحده، فهناك أدوات تسندك دون ضجيج. قسم المهام الكبيرة إلى وحدات صغيرة تنجز في وقت معقول، دون ما أنجز حتى الآن، لا لتقنع نفسك أنك بخير، بل لتتذكر أن التقدم لا يقاس فقط بعدد الصفحات. أعد صياغة موضوعك كسؤال بسيط تطرحه على صديق، وأعد إليه نبرته الإنسانية. وحتى أدوات بسيطة مثل تقنية Pomodoro (25 دقيقة تركيز، و5 دقائق راحة) قد تحدث فارقا حين تتراكم بانتظام.
في نهاية الأمر، أزمة منتصف البحث ليست علامة على ضعف، بل دعوة لإعادة التعرف على المشروع. وعندما تصمت اللغة، لا تهرب… اصغ. فما يبدو ركودا، قد يكون نضجا لم يكتب بعد. لأن الباحث لا ينجز فصولا فقط، بل يعيد تشكيل صوته على امتداد الصفحات. والانقطاع الصادق.. بداية أخرى للكتابة، لكن من موضع أصدق.
hamadaltamimiii@