في عالم تتكاثر الأصوات ويتشظى فيه المعنى، لا يعود النص بريئا من نيات من كتبه، ولا القارئ قادرا على فصل الجملة عن صاحبها. كثيرا ما يقرأ النص اليوم كوثيقة شخصية، لا كمنتج معرفي، وكأن الكاتب كتب ليشرح، لا ليفتح للتأويل. هذا الانحياز إلى صاحب الفكرة قبل مضمونها يجعل القراءة فعلا مشروطة، ويجعل الكاتب رهينة ماضيه، لا منتجا لمستقبله الفكري.
حين طرح رولان بارت نظريته الشهيرة عام 1967، كان يحاول خلخلة هذا التصور الصارم للعلاقة بين المؤلف والنص. يرى بارت أن النص لا يعبر بالضرورة عما قصده كاتبه، بل يتجاوز النية إلى احتمالات جديدة، تنبثق من اللغة ذاتها، ومن ثقافة القارئ، ومن السياق الزمني الذي يعاد فيه استقبال الجملة. الكاتب بحسب بارت، لا يحمل المعنى داخل نصه، بل يحرره منه، ويترك للقارئ سلطة إعادة تشكيله كما يشاء. لذلك فإن «موت المؤلف» ليس نفيا للكاتب، بل نفي لسلطته الوحيدة على ما كتب.
هذه الرؤية تعيد ترتيب العلاقة مع النصوص التي نستهلكها يوميا، سواء كانت أدبا كلاسيكيا أو محتوى رقميا سريعا. ففي كثير من الحالات، يهاجم النص لا لأنه سطحي أو مغلوط، بل لأن صاحبه لا يناسب هوى الجمهور أو خلفيتهم الفكرية. ترفض المقالة لأنها كتبت في جهة معينة، ويتهم صاحب الرأي لا لمحتواه، بل لانتمائه. هنا، تتحول القراءة إلى محاكمة، والنص إلى متهم، والكاتب إلى قضية شخصية، وكل ما قيل يختزل إلى سؤال واحد: «هل يعجبنا من كتب؟».
ومع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي في إنتاج النصوص، تتعقد المسألة أكثر. فالمقالات تكتب اليوم دون مؤلف بشري معروف، والقصائد تنشر بلا وجوه، والخوارزميات تكتب سرديات شبه كاملة. في هذا السياق، تتلاشى حدود التأليف، وتبدأ مرحلة جديدة من الكتابة بلا كتاب، والقراءة بلا مرجعية. كيف سيتعامل العقل الثقافي مع نص بلا اسم؟ هل سيسمح له بالعبور إلى الوعي؟ أم سيسقطه لأنه «بلا روح»؟ ولعل هذا هو الامتحان الحقيقي لنظرية بارت، حين يقرأ النص دون معرفة صاحبه، ويحكم عليه فقط بما يثيره من سؤال، وارتباك، ووميض داخلي.
في نهــاية الأمــر، تبقى الكتابة أوسع من اسم يوقع في أســفل الصفحة. النص حين ينشر لا يعود ملكا لصاحبه، بل يكــون ملكا للغة التي تعيد تدويره، وللقارئ الـذي يعيد اختباره، وللمعاني التي تعاد إنتاجها كل مرة. وربما علينا أن نحرر المعنى من قيد المؤلف، لا لنغفل عن صاحبه، بل لنمنح النص فرصة أن يتكلم بلغته الخاصة، في زمن صاخب بالكلمات، لكنه قليل بالإصغاء.
فهل وصلنا إلى لحظة حقيقية ينجو فيها النص من قيد صاحبه؟ أم أن اسم الكاتب سيظل حجابا يحجب المعنى مهما ارتفعت كثافة الجملة؟
Instagram: @hamadaltamimiii