كنت أشاهده بفضول وهو يحتك بقوة على حافة الصخرة الحادة، مرة تلو الأخرى، حتى بدأ جلده الذهبي يتمزق ببطء عند الحواف. في البداية ظننت أنه يؤذي نفسه، لكن عينيه كانتا هادئتين، واثقتين، وكأنه يعرف سرا لا أعرفه. كان ذلك الثعبان يمارس أقدم طقوس الحياة: طقس التجدد الطوعي.
لم يكن يتألم، بل كان يولد من جديد أمام عيني، تاركا خلفه قشرة فارغة من ماضيه، ومبتدئا رحلة جديدة بجلد أكثر نعومة وقوة وجمالا. في تلك اللحظة أدركت أنني أشهد استعارة حية عن أعمق تجاربنا الإنسانية: لحظة اتخاذ قرار التخلي عن نسخة قديمة من أنفسنا لنصبح ما نحلم به.
جلسنا جميعا يوما أمام مرآة أرواحنا ونحن نتأمل الشخص الذي صرنا إليه، فرأينا صورة لا تشبه أحلامنا، هوية ضاقت علينا مثل ملابس الطفولة، وشعرنا بحاجة ماسة للتحرر من أقفاص صنعناها بأيدينا. لكن الأمر المدهش أن معظمنا يفضل البقاء في جلده القديم، حتى لو كان يخنقه، لأن الألم المعروف أهون من المجهول المخيف.
نعيش كسجناء طوعيين في زنزانات هوياتنا السابقة، نردد «أنا لست شخصا اجتماعيا» أو «أنا فاشل في العلاقات» أو «لا أستطيع تغيير نفسي في هذا العمر» وكأن هذه الجمل منحوتة على أحجار قدرنا ولا يمكن محوها. ننسى أن كل هوية اخترناها يوما ما، وما اخترناه يمكن أن نختار غيره.
الحقيقة المؤلمة والمحررة في نفس الوقت أن معظم هوياتنا المقيدة ولدت من تجارب مؤقتة تحولت لأحكام دائمة. موقف إحراج واحد في الطفولة حولناه لـ «أنا خجول»، فشل واحد في مشروع حولناه لـ«أنا لست مبدعا»، خيانة واحدة حولناها لـ «لا أستطيع أن أثق في أحد». أخذنا لحظات واستخرجنا منها قوانين، أخذنا استثناءات وجعلناها قواعد، أخذنا ندوبا مؤقتة وتعاملنا معها وكأنها وشوم دائمة.
ما يحدث للثعبان أثناء انسلاخه يحدث لنا أيضا عندما نقرر التخلي عن هوياتنا القديمة، لكننا نقاوم العملية بشدة أكبر. أولا، نشعر بعدم الراحة، بأن شيئا في حياتنا لم يعد مناسبا، مثل ارتداء حذاء أصغر من مقاس قدمنا. ثم تأتي لحظة الإدراك المؤلم أن النمو يتطلب التخلي عن الراحة، أن نصبح أكبر من حدود معرفتنا السابقة بأنفسنا.
المرحلة الأصعب تأتي عندما نبدأ فعلا في ممارسة سلوكيات تتعارض مع هويتنا القديمة. الشخص الخجول الذي يقرر أن يبدأ محادثات جديدة يشعر بتوتر شديد، وكأنه يخون نفسه. الشخص الذي اعتاد على تجنب المخاطر ويقرر خوض تجربة جديدة يعيش صراعا داخليا عنيفا. هذا طبيعي تماما، لأن الهوية القديمة تموت ببطء، وهي تقاوم الموت بكل ما تملك من قوة.
لكن مع كل خطوة جديدة، مع كل قرار يتماشى مع الشخص الذي نريد أن نصبحه، تضعف قبضة الماضي علينا وتقوى ثقتنا في المستقبل. أتساءل أحيانا، ماذا لو أصبح الانسلاخ النفسي ممارسة منتظمة في حياتنا؟ ماذا لو توقفنا عن التمسك بقصص قديمة عن أنفسنا وأصبحنا أكثر مرونة في تعريف من نحن؟
ماذا لو تعاملنا مع هوياتنا كملابس قابلة للتغيير حسب الموسم والمناسبة والنمو، بدلا من التعامل معها كوشوم دائمة؟ ربما يأتي اليوم الذي نشكر فيه أنفسنا على شجاعة التخلي عمن كنا، مثلما يشكر الثعبان جلده القديم على الحماية التي وفرها، ثم يتركه خلفه دون ندم.
في النهاية، أجمل ما في هذه الحياة ليس أن نبقى أوفياء لنسخة واحدة من أنفسنا، بل أن نتجرأ على اكتشاف كل النسخ الجميلة التي يمكن أن نكونها. الثعبان يعلمنا أن الحياة الحقيقية تبدأ عندما نرفض أن نكون أسرى ماضينا، ونختار أن نصبح أبطال مستقبلنا.
حين تتخلى عمن كنت، تكتشف من يمكن أن تكون.
Instagram: @hamadaltamimiii