في أعماق القطب الجنوبي المتجمد، حيث تعصف الرياح الجليدية وتنخفض الحرارة إلى ما دون الخمسين تحت الصفر، تحدث معجزة يومية تستحق التأمل. هناك، وسط هذا الجحيم الأبيض، تقدم لنا طيور البطريق درسا عميقا في فن القيادة الحقيقية، درسا لم نتعلمه بعد في قاعات المؤتمرات الفخمة أو كتب الإدارة اللامعة.
تخيل معنا هذا المشهد: آلاف البطاريق تقف في تشكيل دائري محكم، والذكور تحتضن البيض بحنان لا متناه بينما الإناث تخوض رحلة شاقة للبحث عن الطعام. لكن الأمر المذهل هنا ليس في هذا التنظيم فحسب، بل في الطريقة التي يتناوبون بها القيادة. فعندما يشتد البرد، يتحرك البطريق الذي في المقدمة إلى المؤخرة، ويخرج آخر من الداخل ليقود المجموعة، في دورة لا تنتهي من التضحية والمسؤولية المشتركة.
هذا السلوك البسيط يحمل في طياته حكمة عميقة تفوق ما نراه في معظم المؤسسات اليوم. فالبطريق القائد لا يتشبث بمنصبه، ولا يخشى أن يفقد مكانته عندما يتراجع للخلف. إنه يدرك أن القيادة الحقيقية تكمن في الخدمة، وأن دوره ليس الهيمنة بل حماية المجموعة وضمان بقائها. هنا نجد أن القائد الحقيقي هو من يضع المصلحة العامة فوق مصلحته الشخصية، ولا يرى في التراجع عارا بل حكمة.
ما يثير الإعجاب أكثر هو غياب «الأنا» تماما في هذا النموذج. لا توجد صراعات على السلطة، ولا مناورات سياسية، ولا محاولات للاستحواذ على الأضواء. كل بطريق منها يعرف دوره تماما، ويؤديه بصمت وإخلاص، دون انتظار تقدير أو مكافآت. إنهم يقودون بالمثال، لا بالكلمات الرنانة، ويفهمون أن العمل الجماعي الصامت أقوى من أي خطاب ملهم.
هذا الدرس يصبح أكثر أهمية عندما نلاحظ كيف تتعامل البطاريق مع الأزمات والتحديات. عندما تهب العواصف الشديدة، لا يتفكك التشكيل بل يصبح أكثر إحكاما وتماسكا. القادة الجدد يبرزون تلقائيا، ليس بالصراخ أو إعلان الأوامر، بل بالحركة الهادفة والمثال العملي. إنهم يعلمون أن الأزمات لا تحتاج إلى بطولات فردية، بل إلى قيادة جماعية متناغمة.
وبينما نتطلع إلى مستقبل القيادة في عالمنا المتغير، قد نجد أنفسنا مضطرين للعودة إلى هذه الحكمة البدائية. في عصر الذكاء الاصطناعي والتحولات الجذرية، ستكون القيادة التشاركية والمرنة هي البوصلة التي ترشدنا. ربما سنشهد ظهور نماذج إدارية جديدة تحاكي هذا النهج، حيث تتناوب الأدوار القيادية حسب الحاجة والخبرة، وليس حسب المراتب الهرمية الجامدة. المستقبل قد يشهد قيادة سائلة تتدفق وتتكيف مع المتطلبات المتغيرة.
في النهاية، تعلمنا طيور البطريق أن العظمة الحقيقية تكمن في البساطة، أن نقود دون أن نهيمن، وأن نخدم دون أن نتوقع المقابل، وأن نتقدم دون أن نخشى التراجع عندما يحين الوقت. إنها دروس تهز القلب قبل العقل، وتذكرنا بأن أعظم القادة هم من يقودون بصمت، مثل بطريق صغير وسط عاصفة جليدية، لا يهمه سوى أن يصل الجميع إلى بر الأمان. في هذا الصمت الحكيم، نجد جوهر القيادة الأصيلة التي تبني الحضارات وتصنع التاريخ.
Instagram: @hamadaltamimiii