قبل أن يولد الضوء من شرارة، هناك ظلمة قصيرة تتمتم فيها الأشياء بنيتها، كذلك نحن، قبل أي انطلاقة حقيقية في حياتنا، هناك لحظة رجوع هادئة لا يراها أحد، لحظة نعيد فيها ترتيب أنفاسنا، ونختبر قبضتنا على المعنى، ونصوب أعيننا نحو الهدف كما يفعل القوس حين يشد الوتر... بلا ضجيج.
تخيل قوسا بسيطا وسهما ينتظر، اليد لا تدفع إلى الأمام فورا، بل تعود إلى الخلف قليلا، هذه العودة ليست خوفا ولا ترددا، بل هندسة للقوة، كل ثانية من الصبر تضيف للوتر نغمة دافئة، وكل سنتيمتر من الارتداد يملأ السهم بطاقة صامتة، نحن فقط نخلط بين الحركة والجدوى، نتعجل الخطوة الأولى، بينما سر الانطلاق يحدث قبلها بلحظة خفية لا توثقها الكاميرات.
حين نرغب في تغيير أنفسنا، نميل إلى القفز: جداول صارمة، تطبيقات لامعة، وعود كبيرة، لكن القوس يقول شيئا آخر: ابدأ بالرجوع الذكي، عد إلى نومك قبل خطتك، إلى كأس الماء قبل «تحدي الإنتاجية»، إلى عشر دقائق حركة قبل صالة رياضية، هذه عودة تنقي الطريق بدل أن تثقله، أنت لا تهرب إلى الخلف، أنت تمهد للأمام.
وكلما اشتدت العواصف، زادت حاجة السهم إلى هدوئك، الهدوء هنا ليس ترفا، بل دقة زاوية، أن تفحص اتجاه الريح، أن تبدل قبضتك نصف مليمتر، أن تؤجل الإطلاق لحظة واحدة كي لا يتيه السهم في الهواء، القائد في داخلك لا يرفع صوته، يكتفي بإيماءة خفيفة تغير المسار كله.
إذا نظرنا إلى الغد، سنجد أن الإيقاع الذي نحتاجه ليس تسارعا أعمى، بل نبضا واعيا، ستنشأ طرق عيش وعمل تقوم على «التقدم النابض»: نبضة تعلم تليها نبضة تطبيق ثم نبضة مراجعة، كتنفس منتظم يحفظنا من الإرهاق، ستغدو المهارات مثل أسهم متعاقبة: تعلم صغير مركز، تطبيق صغير محسوب، ثم صمت قصير يرتد فيه القوس استعدادا لطلقة أدق، قد تعتمد الفرق مواسم ارتداد قصيرة ضمن جداولها، فتتحرك أسرع لأنها تعرف متى تبطئ، وربما يظهر مفهوم «الإنجاز الهادئ» الذي يقيس جودة الزوايا لا عدد الضربات، ويكافئ من يحسن ترتيب القوة قبل إطلاقها.
وسنرى أيضا أدوات شخصية أبسط وأعمق: مفكرات تختبر سؤالا واحدا كل مساء بدل عشر مهام، جلسات مراجعة قصيرة تعيد ضبط البوصلة قبل أن يضيع الطريق، وعادات دقيقة تقوم على تقليص الجهد لا تضخيمه، ستنتقل قصص النجاح من «منجزات صاخبة» إلى «حرفية خافتة»، حيث يصبح الإتقان نتيجة لالتزام صغير يتكرر بضمير، ومع تسارع العالم، سيصير الصمت ميزة تنافسية، والقدرة على الارتداد الواعي مهارة بقاء، تماما كما يلتقط القوس نفسه قبل إطلاق السهم الذي لا يخطئ.
في النهاية، لا شيء يلمع في السماء مثل سهم عرف موعد ولادته، القوة ليست في اندفاع يرضي المتفرجين، بل في طمأنينة الرجوع الذي لا يراه أحد، تقدم دون استعجال، وتراجع دون خوف، واحترم لحظاتك الصامتة كأنها أعيادك الخاصة، هناك، في الفاصل الرقيق بين شدة الشد وخفة الطيران، تتشكل نسختك الأصدق، امنح نفسك اليوم عودة قصيرة… ودع قلبك يطلق السهم حين يحين الوقت.
hamadaltamimiii@