سفينة عامرة بكل ما لذ وطاب من خيرات، ميزتها أن خيراتها دائما في ازدياد، تتلذذ بطعامها وتنعم بجمال مرافقها، إنها كقطعة من الجنة، بل هي جنة بالفعل، إن لمحت هيكلها لمحة عابرة فستندهش من جمال بنيانها والبراعة في نقشه، لا مجال للتمني على سطح تلك السفينة، فكل شيء مجاب ملبى وبزيادة، مع مرور السنين يزداد خيرها وعزها تبات تأسرك برحلاتها وجولاتها إلى شتى بقاع العالم، فتذهب للشمال والجنوب، وللشرق والغرب، لا تهزها المسافات ولا تثنيها الأعاصير، فهي قوية متينة، كقوة أصحابها وتماسكهم، فقد عمروها لسنين واجتازوا بها كل الصعاب وذاقوا على متنها أحلى الأيام.
تلك السفينة تتكون من ثلاثة طوابق، وقد كان الطابق السفلي يشكو ثقبا صغيرا منذ سنوات كان صغيرا جدا، ويتسرب منه القليل من الماء، ولقلة أثره لم يلتفت له أحد وتجاهلوا وجوده، يمرون عليه أحيانا فيبلل الماء أسفل أقدامهم ولا تلبث أن تجف بعد دقائق قليلة، اشتكت سيدة السفينة بعد فترة من الزمان لأنه بات يبلل ثيابها وهي حريصة كل الحرص على أن يكون كل شيء على ما يرام، فقد أخذ إعمارها سنوات طوالا، لكن لم يستجب أحد، وانشغلت هي مع قاطني السفينة تلتفت لما يحتاجون إليه ويريدونه، تلبي هذا وذاك، وهي تقدر كل التقدير جهود صانعها وشريكها فقد تكبد الكثير وعانى، لتشييد هذه السفينة تخاف عليه وترعاه، من جمال أرواح سكانها قد عمرت بجميل اللقاءات والرحلات، فقد أخذوا على متنها أحبابهم، شاركوهم أجمل اللحظات وأحلاها، كان الهدف الأسمى أن تسير تلك السفينة لما هو مقدر لها أن تسير بكل سلام وأمان.
مع كثرة المشاغل والمصاعب، تناست سيدة السفينة ذلك الثقب لسنوات ولا يذكرها به إلا مرورها العابر في عز انشغالها على البلاجة، (الطابق السفلي من السفينة) فإذا بها ترى منسوب المياه في ازدياد، فتخبر سيد السفينة وصانعها بذلك، وكان في كل مرة يتجاهل الأمر وأحيانا يهجرها متهما إياها بأنها تشغله عن أعماله وأهم مواعيده فــفي تلـــك السفينة العملاقة الكثير من الأمور غير المنجزة والعالقة، باتت الميـــاه المسربة تزعجها أكثر وأكــثر وأضرت بما تخزنه في أسفـــلها وتتلف مواردها، فكانت تنزل وتأخذ ما يمكنها أن تحميه من الخراب، فهناك الكثير من الأحمال التي تكبدت سنين في الحفاظ عليها.
وجاء ذلك اليوم الذي استيقظ فيه قاطنو السفينة على صوت صراخ فقد ارتفعت المياه إلى النصف وأصبح سكان الطابق الثاني غير قادرين على العيش فيه، ولم يتبق إلا سطح السفينة، استنفد مخزون السفينة، وفسد الطعام والثياب ولم يعد هذا المكان الجميل مؤهلا للسكن والمتعة، التفتت سيدة السفينة الى شريكها بعينين ملئتا بالحزن والعتب تستنجده أن أن يعمل شيئا، فأشاح بوجهه وهو يمسك شبكة الصيد التي شدت يده فقد اصطادت شبكته صيدا وفيرا.
في لحظة حيرة وغضب من سيدة السفينة، أخذت تتلفت يمنة ويسرة، هي تنظر للبعيد، السفينة بعد أشهر قليلة لن تكون مؤهلة للعيش على سطحها، كيف العمل وما تصنع بسكان تلك السفينة وبسيدها، فقد أحبته وعاشت معه أجمل السنين.
ما سبق كان صورة رمزية تشبه العلاقات، بيئة عمل، فيها الكثير من الخير، ولكن تفسدها أمور قد تبدو صغيرة ولكن تراكماتها قد تضر الجميع، تهدم أسرة، وتفسد بيئة عمل، قد يكون الماء المسرب فسادا ماليا، أخلاقيا، هو ماء والماء خير، ولكنه في غير موضعه، والشيء في غير موضعه شر، كرشوة، سرقة، علاقة تفوح منها رائحة الخيانة بين أصدقاء أو شركاء حياة أو عمل، كخيانة مبدأ وخيانة الوطن.