على مائدة فاخرة حيث تزخر بكل ما لذ وطاب من أصناف الطعام، يجتمع عليها أفراد العائلة يوميا، تجد كل طبق قد زين بأجود أنواع الطعام وترى الفاكهة الشائع منها وغير المألوف قد رص بطريقة فنية في طبق كريستال فاخر، لا تجد صنفا ينقص أو يقل، مرت سنوات طوال والخير في ازدياد، إلى أن أتى ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه سيدة القصر عفن قد اختبأ بين حبات الفاكهة نفسها، وبنفس المكان والطريقة، استغربت فالعفن ينمو بطريقة عشوائية وليس بتلك الطريقة المنظمة، حاولت أن تتغافل عن الموضوع وقالت ربما صدفة.
ما أثار انتباهها فعلا المرة الثالثة التي لمحت فيها صاحب القصر يدس بضع حبات من الفاكهة العفنة في نفس المكان، حيث تكون متوارية عن الأنظار ولأنها دقيقة الملاحظة كانت تنتبه لها في كل مرة، وقفت مرعوبة مشلولة، ان هذا الفعل متعمد! وربما كان مقبولا لديها لو كان من دون قصد، ولكن لماذا بعد كل هذا الجهد والتعب الذي كابده يقوم بهذا الفعل؟!
هي تعلم كم عانى ليشيد قصرا كهذا، هي تقدر كل ما يقوم به ويشقى من أجله لينعم أهل بيته بذلك النعيم، وقفت متسمرة واجمة مكانها لا تعلم ماذا تصنع، هل تواجهه وتستعلم منه؟! مرددة في نفسها «لكن ماذا أريد أن أعرف فكل شيء واضح وضوح الشمس»، ثم خطر لها خاطر أن تحذر أهل القصر من الأكل من هذا الطبق.. وماذا إن تعمد إفساد أطباق أخرى؟! ظلت حائرة مترددة مذهولة.
هذه صورة رمزية لفساد مخفي متوار خلف كل مظهر جميل منسق منمق، قد يكون فسادا إداريا في مؤسسة أو منظمة، ترى مبانيها قد شيدت بأعلى معايير الجمال والفن ولان تكتشف فسادها الإداري والفني، فتأسف على الأموال التي أهدرت.. والمعنى أن ترفع معاني سامية وإنجازات عظيمة قبل أن ترفع جدرانا مزخرفة متقنة.
قد يعكس ذلك المشهد أيضا علاقة ســـامة تختلط فيها المواقف الجميلة بمواقف مؤذية تفسد كل جميل فلا تكون قادرا على الاستمتاع بجمالها، ولا أقصد المواقف التي تعتري أي علاقة، بل مواقف تكشف لك حقيقة روح سيئة متعالية تضع مصالحها وأولوياتها قبل الكل حتى لو كان ذلك فيه إهانة وإذلال للبقية.
علاقة لا تجد فيها مكانا للمبادئ ولا تقديرا لمكان الأشخاص، ومن الممكن أن تعكس صورة المائدة أرواحنا نحن كبشر، إن جملنا ظواهرنا وأجسادنا بكل جميل وثمين ولم نلق بالا لأرواحنا فلا نلتفت لتصرفاتنا مع أقرب الناس لنا قبل بعيدهم، أن نحرص على الصورة العامة المجتمعية «عشان كلام الناس» ونهمل النفس وما يزكيها ويعلي من شأنها، بل إن البعض قد يدنس نفسه بسيئ الصفات وأقبحها، كواضع العفن في الطعام فتجد السم يطوله حتى يتجاوز كل من يتعامل معهم.
حقيقة الأشياء والدوافع والنوايا هي ما ترتقي بنا وتسعدنا، وما أجمل أن تتوافق مواقفك وتصرفاتك مع مشاعرك ونواياك وستجد جميل الأثر على استقرارك النفسي، فتنقية النفس والسعي لتطويرها والنهوض بها أساس كل نجاح حقيقي، أن تكون ناجحا صادقا، في نواياك ودوافعك، أن تلقي نظرة ثاقبة على قلبك بين الحين والآخر، فنحن بشر لسنا معصومين. لتحافظ عليه مشعا ينير دربك، فيكون قلبك سراجك الذي يقودك في ظلمات الطريق.