تمر في حياة الإنسان مواقف وأيام لا تنسى، مهما شغلتنا الحياة، فتراه يقف دائما ليتذكرها، ويتأملها، ويستضيء بها في دروب الحاضر والمستقبل. ونحن في بلد السلام والإنسانية نستذكر بشيء من الحزن الممزوج بالفخر أياما خالدة في أعماقنا، تلك التي عاشتها الكويت وشعبها في أحلك الظروف، عندما غدر الجار بجاره، سواء من صمد داخلها أو من تهجر خارجها، فاقدا أرضه، ومسكنه، وعاداته وتقاليده بالكامل.
تلك الأيام المريرة التي بدأت فجر الثاني من أغسطس 1990، بصدمة الاحتلال وفقدان الأرض وحيرة الموقف في مواجهة الغزو الصدامي الغادر، كانت لحظة فاصلة في تقرير الوجود: فإما أن نكون ونبقى، أو أن نكتب سطرا مهملا في كتب التاريخ والجغرافيا. ولكن سرعان ما بدأنا بلملمة أنفسنا، ومحاولة فهم كيفية التعامل مع هذا الحدث العنيف والهمجي، متجاوزين بوعى كبير التحزبات والتوجهات الفكرية وغيرها، ومنصهرين في بوتقة الوحدة والهوية الوطنية.
ومن حياة الرفاه تحولنا إلى السكن المشترك في منزل واحد بين عدة أسر لتقليل التنقل وزيادة التلاحم، ودعم بعضنا البعض وتأمين الاحتياجات الأساسية. ومن شباب يطلب العلم ويسعى في تقدم البلاد إلى متطوعين في مواقع خدمية مختلفة لخدمة الجميع، من خبازين، وحلاقين، وحافري قبور، وجامعي نفايات، وغيرها من الأعمال التطوعية الكثيرة، التي لا تعد ولا تحصى. وكان من أبرز صور هذا العطاء: حمل السلاح، والتصدي للغزو، ورفض الاحتلال بكل شجاعة.
كانت تغمرنا سعادة كبيرة بتلك الصور التطوعية المتنوعة والمبادرات العديدة داخل الكويت وخارجها، التي قام بها أبناؤها الأوفياء، والتي أكدت إيماننا بتحرير أراضينا وعودتها، عاجلا أو آجلا. لقد أظهرت هذه المبادرات لحمة الكويتيين ووقوفهم في أيام الشدائد صفا واحدا أمام المعتدي، وأمام كل من تسول له نفسه الاعتداء على هذه الأرض الطاهرة أو هذا الشعب القوي بإيمانه بالله، ثم بولائه لوطنه وحكامه.
وحينئذ، قررت القوات الدولية الحشد للدفاع عن الكويت من براثن العدوان الغاشم، بقيادة الدول الصديقة والحليفة، وبالمواقف البطولية لقادة دول مجلس التعاون الخليجي، الذين التزموا التزاما كاملا، ففتحوا أراضيهم واحتضنوا الشعب الكويتي.
وبناء عليه، قررت الحكومة الشرعية الكويتية، التي كانت متواجدة في المملكة العربية السعودية آنذاك، توجيه قوات الجيش الكويتي للتعاون مع القوات السعودية، بتسهيلات كريمة من الحكومة السعودية الرشيدة، وذلك لتجهيز الجيش الكويتي للمشاركة في تحرير الكويت، بالتعاون مع القوات المشتركة، وتهيئته لاستقبال المتطوعين الكويتيين والتحاقهم بالدورات العسكرية الميدانية للتدريب والتأهيل.
وكانت هذه المواقف بمثابة وقفة شجاعة من دول الخليج، وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية، التي فتحت قلوبها وإمكاناتها قبل ديارها، لاستضافة الشعب الكويتي وتدريب متطوعيه، والوقوف إلى جانبه حتى انتهاء هذه المحنة.
صمود الشعب الكويتي الوفي وتضحياته الكبيرة داخل الكويت، والتفاف أبنائه في الخارج بصوت واحد حول الشرعية الكويتية، ورفضهم القاطع لدخول الجيش المعتدي وانتهاك الأراضي الكويتية، ساهم بشكل كبير في دعم قوات التحالف المشاركة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في خوض معركة «عاصفة الصحراء»، وبدء عملية دخول القوات المشتركة لتحرير الكويت.
وقد تشرفت حينها بالمشاركة متطوعا في صفوف الجيش الكويتي، ضمن لواء الخلود، وضمن القوات المشاركة في تحرير الوطن.
وعند دخولنا من حفر الباطن عبر الشمال، كان المشهد لا يوصف، دمار واسع، حرائق مشتعلة، مبان مهدمة، وظلام في عز النهار بسبب احتراق آبار النفط الكويتية، وانقطاع الكهرباء، وحياة شبه مشلولة. كانت تلك المشاهد تروي حجم التضحيات الجبارة التي قدمها الشعب الكويتي في الداخل، وتحمله لكل أشكال المعاناة من أجل تحرير أرضه الغالية.
ولا شك أن ما عاناه الكويتيون خلال فترة الغزو، خصوصا في أيامه الأخيرة، كان أشد وأقسى. لكن الأمل والإيمان العميق بالله سبحانه وتعالى، كانا الدافع الأكبر نحو الصبر والثبات، حتى تحقق النصر، وعادت الأراضي الكويتية إلى أهلها.
إن التضحيات التي قدمها شعبنا العزيز والوفي بمختلف أشكالها تعبر عن عمق الانتماء، وصدق الولاء، ورفعة الوطن وعزته في قلوب أبنائه.
لقد كانت محنة الغزو العراقي الغاشم نكبة قاسية وطعنة لم نتوقعها من جار يجمعنا به الدين واللغة، لكنها في حقيقتها كانت اختبارا وابتلاء من الله تعالى: هل نصبر أم نيأس؟ هل نثبت على مبادئنا وديننا أم نجزع؟ كانت أياما صعبة، لكنها كانت أيضا مليئة بالدروس والعبر، على المستوى الفردي والجماعي. زادتنا هذه التجربة تماسكا، وأججت حبنا لهذه الأرض الحرة الأبية، وولاءنا لحكامها المخلصين.
في هذه التجربة كانت التضحيات غالية وعظيمة، ولكن الوطن أغلى من أن نقف مكتوفي الأيدي، واليوم بينما نستذكر تلك الأيام والتضحيات، ننظر إلى المستقبل معاهدين من ضحوا بأرواحهم بأن نقدم ما نستطيع، من أي موقع وفي أي ظرف، سواء في الشدة أو الرخاء، وفاء لهذا الوطن الغالي وترابه العزيز وقيادته الحكيمة. فخدمة الوطن لا تقتصر على الجبهة أو الميدان، بل تشمل العمل والاجتهاد والإخلاص داخليا، وتمثيله خير تمثيل خارجيا.
اللهم أعنا على شكر نعمك، وأدم علينا أمننا واستقرارنا، واحفظ وطننا من كل سوء.