من الحكم النافعة قول من سبقنا: «لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل»، وأهل الفضل هم من إذا ظلموا صبروا، وإذا أسيء إليهم عفوا، وإذا جهل عليهم حلموا، فهم أعرف الناس بمن يشبههم لذلك تجدهم يجلون ويوقرون أقرانهم.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في المسجد وقد أطاف به أصحابه، إذ أقبل علي فسلم ثم وقف فنظر مكانا يجلس فيه، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجوه أصحابه أيهم يوسع له، وكان أبوبكر جالسا عن يمينه، فتزحزح عن مجلسه وقال: هاهنا يا أبا الحسن، فجلس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، (يقول أنس راوي الحديث) فرأينا السرور في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أبي بكر فقال: «إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل».
وقد روي عن ابن عباس أنه أمسك للحسن والحسين ركابيهما حتى خرجا من عنده، فقال له بعض من حضر: أتمسك لهذين الحدثين ركابيهما وأنت أسن منهما، فقال: أسكت يا جاهل، لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل.
وروي أن المأمون العباسي ندب يحيى بن زياد الفراء لتعليم ابنيه النحو، فأراد الفراء أن ينهض لبعض حوائجه فتسابقا إلى نعله أيهما يقدمانها له، فتنازعا ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردة، فقدماها، وكان المأمون له على كل شيء صاحب خبر، فرفع إليه ذلك الخبر، فوجه إلى الفراء من استدعاه، فلما دخل عليه قال له: من أعز الناس؟ قال: لا أعرف أحدا أعز من أمير المؤمنين، قال: بلى، إن أعز الناس من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين، حتى رضي كل منهما أن يقدم له فردة، قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما من ذلك ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها.
فقال له المأمون: لو منعتهما لأوجعتك لوما وعتبا، وألزمتك ذنبا، وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما، وبين عن جوهرهما» وعندما تتأمل هذه القصة لا تعرف لمن تنسب هذه المكرمة والمنقبة أللمأمون أم لولديه أم للفراء، ودمتم سالمين.