هل تستطيع أن ترى منظمتك من الفضاء؟ هل تخيلت يوما أن الإدارة تشبه التنقل بين خطوط الطول ودوائر العرض؟ هذه مقاربة إدارية مستلهمة من واقع الجغرافيا.
افترض علماء الجغرافيا والمناخ نموذجا مفترضا قاموا من خلاله بتقسيم الكرة الأرضية إلى خطوط طول ودوائر عرض، وهي قطاعات ومناطق ذات طابع زمني ومناخي مميز، ويسهل من خلالها تقسيم المناطق الجغرافية.
واليوم تستخدم خطوط الطول ودوائر العرض لتحديد الخرائط والإحداثيات لكل نقطة على سطح هذه الأرض الممتدة شمالا وجنوبا، شرقا وغربا. وهنا لن أستعرض حجم استفادة المعماريين والمهندسين المدنيين في التخطيط لمواقع بناء الأبراج والجسور والسدود، أو كيف تساعد هذه النظرية الطيارين على اختيار أفضل أماكن الهبوط أو حتى إسقاط المساعدات الإنسانية! يهمني تأمل الجانب الإداري، وانعكاس هذه النظرية العملية على ممارسات المسؤولين. فكما قسم العلماء الكرة الأرضية لتسهيل الملاحة، يمكننا نحن أيضا تقسيم الإدارة لثلاثة مستويات، لكل منها رؤيته، ومهامه، وحدوده.
1 ـ أولها المستوى القيادي والاستراتيجي: فمن خلال نظرية خطوط الطول ودوائر العرض يتحتم على المسؤول في المنظمة الكبرى أو ذات الحجم المتوسط أن يراقب أعمال المنظمة من علو شاهق، ويمارس أعماله القيادية ويقيس تنافسية المنظمة بشكل دائم. يرى القائد الاستراتيجي الصورة من السماء، يرصد الاتجاهات الكبرى، يضع المؤشرات، ويقيس حالة المنظمة وتميزها على نطاق 360 خط طول و180 دائرة عرض. في عالم الإدارة، من الخطير أن يطير القائد على ارتفاع منخفض.
2 ـ المستوى الثاني هو الإداري التنفيذي: والذي يركز فقط على مساحة محددة بين خطوط طول معينة ودوائر عرض محددة. هو أشبه بمراقب جوي لإقليم واحد، يتابع مؤشراته، ويتفاعل مع مناخاته المتغيرة، سواء في منطقة المبيعات أو دائرة تسويق المنتجات أو قطاعه المعني. فمثلا مسؤولية مدير المبيعات الإقليمي هي عن عدد من الأفرع والمناطق، وهو غير مسؤول عن المنظمة ككل مثل مسؤول المستوى الأول. وعليه أن يلم بكل تفاصيل المنطقة الواقعة ضمن نطاق مسؤوليته، أي خطوط الطول ودوائر العرض المرتبطة باختصاصه.
3 ـ أما المستوى الثالث فهو الإداري التشغيلي: الذي يتطلب دقة عالية ومعرفة تفصيلية بالمنطقة المحددة ضمن مسؤولياته. هو أشبه بخبير ميداني يعرف أجواء المنطقة، مواردها، وتضاريسها بدقة متناهية. يتابع المؤشرات اليومية، تقلبات الأداء، وأدق التفاصيل التشغيلية، وهي أمور لا تقع ضمن نطاق المدير الاستراتيجي، ولا ينبغي له الانشغال بها.
خلاصة المقاربة: إن هذه المستويات الثلاثة ـ الاستراتيجي، التنفيذي، التشغيلي ـ تكمل بعضها البعض في منظومة إدارية متكاملة. وعلى كل مسؤول أن يدرك جيدا حدود مساحته، ونطاق تدخله، كما يدرك الطيار خطوط الطول والعرض المخصصة له. فالخروج عن النطاق قد يؤدي إلى تصادم في الأدوار، وتأخير في الإنجاز. كما أن انشغال القائد بالتفاصيل اليومية يعطل نظرته الشمولية، وتجاهل التنفيذي لخصوصية منطقته قد يفقده السيطرة. فالتوازن في توزيع المهام، واحترام مستويات المسؤولية، هو ما يضمن انسيابية «الملاحة المؤسسية» دون ارتباك أو توقف.
وفي النهاية، القادة الكبار هم من يعرفون متى يبتعدون ليروا الصورة، ومتى يقتربون ليفهموا التفاصيل دون أن يغرقوا فيها.
Mnalanzi@outlook.com