أصبح الذكاء الاصطناعي يحتل الرقم الأول الآن في حياتنا مع اهتمام الأفراد والشركات به خصوصا مع المميزات التي يمتاز بها من تحليل البيانات والإجابة عن الأسئلة، وتبسيط المفاهيم المعقدة، غير أن ما يحدث اليوم في المجال الصحي قد يعيد صياغة مفهوم الرعاية الطبية جذريا لا سيما على صعيد اكتشاف الأدوية وتصميمها، حيث توقع الرئيس التنفيذي لشركة «إيزومورفيك لابس» ديميس هاسابيس أن تبدأ شركته التجارب على الأدوية التي تم تصميمها عن طريق الذكاء الاصطناعي هذا العام وهو باحث بريطاني في مجال AI وحاصل على «نوبل» في الكيمياء عام 2024، وقال إن الشركة تعمل على تقليل فترة اكتشاف الأدوية من عقد أو أكثر إلى أسابيع أو أشهر.
1- نقلة نوعية في تصميم الأدوية: على مر العقود الماضية، كان تصنيع الأدوية أو اكتشافها يمر بمراحل طويلة ومعقدة، تستغرق سنوات من التجارب والتطوير والتعديل، واليوم تغير شركات عالمية تقنية أو دوائية هذه المعادلة، وهذا ما أوضحته «إيزومورفيك لابس» مع رحلتها الشاقة مع أدوية تم تصميمها كليا بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يشير إلى ثورة حقيقية في سرعة اكتشاف الأدوية واختبارها.
2- البعد الأخلاقي والقانوني: لا يقتصر الأمر على ابتكار دواء بسرعة فائقة، ولكنه يفتح كذلك باب النقاش حول القضايا الأخلاقية والقانونية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية. كيف يمكننا ضمان سلامة المرضى في ظل هذه السرعة الهائلة في تطوير الأدوية؟ هل تكفي القوانين والتشريعات الحالية لضمان عدم وقوع التجارب السريرية في أخطاء قد تعرض حياة الناس للخطر؟ وماذا عن خصوصية البيانات الطبية التي هي أساس التعلم العميق في تصميم الأدوية؟ إن هذه التساؤلات تلقي الضوء على جانب ربما يفوق في تعقيده الجانب التقني أو العلمي.
3- نموذج عمل جديد في مجال الأدوية: إن تمكنت هذه الشركات من تحقيق إنجازات ملموسة، فقد نشهد تحولا في نموذج العمل الدوائي برمته. تخيل أن تتمكن شركات الرعاية الصحية من تطوير علاجات جديدة لأمراض مزمنة أو نادرة خلال بضعة أشهر فقط، بدلا من انتظارها عشرات السنين. هذا التغيير الجذري قد ينعش المنافسة بين شركات الأدوية ويشجع على ظهور شراكات جديدة بين عمالقة التكنولوجيا ومؤسسات الرعاية الصحية. فليس بعيدا أن نرى «جوجل» و«مايكروسوفت» و«أمازون» وغيرها تبتكر أساليب تشخيص وعلاج تفوق ما كان يتصور قبل عقد من الزمن.
4- تجارب سريرية أسرع - ولكن كيف؟
هناك محور آخر جدير بالاهتمام: «التجارب السريرية»، إذ عادة ما تمر الأدوية بمرحلتين أو 3 قبل الوصول إلى الاستخدام التجاري، ويتطلب الأمر اختبار الدواء على مجموعات مختلفة من المرضى للتأكد من سلامته وفعاليته. إن اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي قد يسرع هذه العملية عبر تحليل البيانات السريرية والتنبؤ بالنتائج المحتملة بدقة أكبر، ما يقلل من الحاجة إلى تجارب مكثفة طويلة المدى. ولكن تبقى علامة الاستفهام: هل تعوض التجارب الفعلية على البشر تماما؟ وهل يستطيع الذكاء الاصطناعي التنبؤ بجميع الاستجابات الجسدية والحيوية المعقدة؟
5- الاقتراب من نموذج الرعاية الصحية «الشخصية»: يفتح الذكاء الاصطناعي الباب على مصراعيه أمام مفهوم الطب الشخصي. فبدلا من أن يتناول جميع المرضى الدواء نفسه بالجرعة نفسها، قد يتم تصميم الأدوية والجرعات اعتمادا على بيانات جينية وفسيولوجية فريدة لكل مريض. إن ذلك قد يزيد من فاعلية العلاج ويقلل الآثار الجانبية، ولكن كيف سيتم جمع هذه البيانات وتحليلها؟ ومن الذي يضمن حماية المعلومات الجينية والحساسة من الاختراق أو الاستغلال التجاري؟
الخلاصة: ثورة تطرق الأبواب.. ففي خضم هذه التساؤلات، تبقى الحقيقة الثابتة أن القطاعات الطبية تشهد تحولا عميقا بقيادة الذكاء الاصطناعي. وقد يشكل إعلان شركات كبرى عن تجارب دوائية جديدة مجرد البداية فحسب، فالتطور التقني الهائل في تعلم الآلة (Machine Learning) والشبكات العصبية العميقة (Deep Learning) بدأ يدخل فعليا في صناعة القرار الطبي، سواء في التشخيص أو في تصميم الأدوية.
وفي النهاية، سننتظر النتائج الفعلية لهذه الأدوية «المصممة» بالذكاء الاصطناعي: هل ستدخل التجارب السريرية فعلا في غضون أشهر؟ وهل ستصمد أمام التحديات التي واجهت الصناعة الدوائية لعقود طويلة؟ قد تكون الإجابة في الأفق القريب، إلا أننا بانتظار رؤية كيف سينجح الذكاء الاصطناعي في إحداث التوازن بين استثمارنا الضخم في الأبحاث من جهة، وحاجتنا الملحة لعلاجات فعالة ومستدامة من جهة أخرى.
وهنا تكمن قصة مشوقة لا يزال العالم يترقب فصولها المقبلة بشغف!