اتسمت السياسات الخارجية الأميركية بالمرونة، لاسيما في غضون رئاسة ترامب الجديدة لمواءمة التحديات الاقتصادية والجيوسياسية المؤثرة في التجارة الدولية، والتي انحسر عنها غطاؤها الديبلوماسي، وبرزت مثالبها بشكل تدريجي كورقة ضغط لاعبة بين المصالح المتعارضة للدول المستفيدة بشكل مباشر أو غير مباشر من تدفق النشاط الاقتصادي العالمي عبر نفوذها، لتتنوع بذلك سياسة ترامب من الانكفائية إلى الهيمنة اللوجستية على الممرات البرية والبحرية لتعزيز مكانة الولايات المتحدة الأميركية في الازدهار الاقتصادي كقوى مفصلية قادرة على تغيير الخريطة التجارية في منطقة آسيا الوسطى التي تعد الآن شريان الحركة التجارية العالمية، لاسيما ما تحويه من قنوات وطرق قادرة على الربط بين القارات وعمل العديد من الإزاحات الجغرافية بما يضمن جدوى اقتصادية فعلية للعديد من المشاريع الحيوية المهمة للعديد من الدول بما ينعكس إيجابا على استقرارها سياسيا واقتصاديا.
لذلك، نجد النهج الذي أعلن عنه صراحة الرئيس ترامب برؤيته المتجددة يرتكز على أن الاقتصاد بوابة للسلام، وتبنى في تحقيق ذلك رعاية مشاريع إنشاء ممرات اقتصادية جديدة ببنى تحتية ذكية واستثمارات ضخمة دولية، والتي كان من أبرزها إطلاق مشروع «طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي»، لينهي بذلك عقودا من الصراعات الايديولوجية والسياسية بين البلدين المتجاورين جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا بإقرار كل منهما بتكامل أراضي كلا البلدين والموافقة على تدشين ممر ترامب البري والذي ستعود ملكيته لجمهورية أرمينيا، وهو واقع تحت سيادتها عبر اتفاقية تاريخية عقدت في البيت الأبيض الشهر الماضي، جسدت فيها روح التعاون الاقتصادي وقدرة ترامب على التفاوض وإدارة الأزمات بما يعود ريعه على النشاط الاقتصادي العالمي بالفائدة ككل، والاقتصاد الأميركي على وجه الخصوص لتملكها حق الامتياز من إدارة وتشغيل هذا الممر التجاري لمدة تسعة وتسعين عاما، والذي سيشمل طرقا سريعة وسكك حديد وأنابيب لنقل النفط والغاز من آسيا إلى أوروبا، عبورا بتركيا المستفيدة من حركة المرور تلك بما يعزز من دورها الاقليمي في دول القوقاز.
إلا أن السباق العالمي في مشاريع الممرات التجارية المشكلة لخارطة الجغرافيا الاقتصادية الحديثة له كلفة كبيرة يخشى على الدول ذات الاقتصاد المتنامي أن تدفع فاتورته، نظرا لما يتضمنه من تحديات جغرافية وسياسية وأمنية يتخللها استعراض لتحدي قوى بين استمرار النظام القائم وسطوع النظام الجديد متعدد الأقطاب، وهذا ما شاهدناه في مضمون الرسائل التي أدلت بها منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي، والتي تضم في عضويتها كبار الدول من روسيا والصين والهند كمحور آسيوي له ترسانته الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، إلى جانب العديد من الدول الأخرى المنضمة بصفة مراقب وشريك للحوار في اجتماعها الأخير المنعقد بمدينة «تيانجين» الساحلية باعتبارها الميناء الرئيسي لمشروع الحزام والطريق، ليتم التأكيد من خلال ما جاء به على مبدأ التعددية ونبذ التعاملات القسرية، لإعادة التوازن بين القوى العالمية بما يجسد الرؤية الحقيقية للسلام، باستبعاد الهيمنة الأحادية على قلب الشريان التجاري العالمي المتمثل في المنطقة الأوراسية.
tahanihuman@gmail.com