في خضم الطفرة الثقافية والإعلامية التي تعيشها دول مجلس التعاون الخليجي، ومع تسارع الاهتمام بالمعرفة والنشر والفعاليات الثقافية، تبرز قضية مهمة وهي مكتبات الكتب المستعملة والطبعات القديمة كملف مهم غالبا ما يهمل رغم ما يحمله من قيمة ثقافية وتاريخية كبيرة.
هذه المكتبات، التي تبدو متواضعة أحيانا في شكلها ومكانها، تحمل بين رفوفها كنوزا معرفية ونفائس فكرية يمكن أن تسهم في تشكيل الوعي الثقافي وتعزيز الهوية الفكرية للأجيال الحالية والقادمة.
الطبعات القديمة من الكتب ليست مجرد نسخ كتب أعيد طبعها لاحقا، بل تمثل في كثير من الأحيان السياق التاريخي والفكري الذي خرج فيه العمل. ففي مقدمات المؤلفين وتقديمات النقاد القدامى نجد إشارات تعكس توجهات زمنها، ما يمنح القارئ فهما أعمق لتاريخ النص وظروفه.
كثير من تلك الكتب طبعت في الستينيات أو السبعينيات ولم يعد طبعها لاحقا، وربما أغلقت دور النشر التي أصدرتها أو لم ترقم إلكترونيا. وجود هذه النسخ في المكتبات المستعملة يمنح الباحثين فرصة الوصول إلى مراجع ربما تعذر الحصول عليها بوسائل أخرى. وبينما ترتفع أسعار الكتب الجديدة، لاتزال المكتبات المستعملة تقدم خيارات بأسعار مناسبة للطلاب، والباحثين، والقراء العاديين، ما يسهم في نشر الثقافة بأسلوب اقتصادي.
كما أنها في كثير من الأحيان، تتجمع في هذه المكتبات كتب من دول عربية شقيقة، ما يتيح للقارئ الخليجي الاطلاع على الإنتاج الثقافي العربي خارج الحدود الجغرافية.
إن دعم مكتبات الكتب المستعملة يسهم في تشكيل ثقافة إعادة التدوير المعرفي وتعزيز فكرة أن الكتاب ليس منتجا يستخدم مرة واحدة ثم يهمل.
كما تمكن الشباب ورواد الأعمال الدخول في هذا المجال، بإنشاء مكتبات صغيرة أو تنظيم معارض متنقلة للكتب القديمة والمستعملة، ما يفتح بابا لاقتصاد ثقافي ناشئ. من خلال توفير مصادر أصلية لطلبة الماجستير والدكتوراه، ولباحثي التراث والنصوص النقدية القديمة، ما ينعكس على جودة الإنتاج العلمي المحلي.
من الأفكار الملهمة والقابلة للتنفيذ في معارض الكتب الخليجية إنشاء جناح خاص تحت اسم «الطبعة الأولى» أو «كنوز الورق»، يضم كتبا مستعملة وطبعات قديمة بإشراف من مختصين في النشر والتراث.
أيضا تنظيم مزادات ثقافية للكتب النادرة أو الموقعة، مما يضيف بعدا تفاعليا وجاذبا للجمهور العام والمهتمين.
اضافة إلى أن تنظيم ورش حول «تاريخ الطباعة والنشر في الخليج»، تربط الكتب المعروضة بالسياق المحلي وتعمق الفهم التاريخي لدور الطباعة في المنطقة. وتشجيع التبادل بين رواد القراءة عبر مساحات مخصصة لمبادرات «خذ كتابا واترك آخر»، وهي طريقة لتعزيز مجتمع القراء وتداول المعرفة.
خاتمة: الكتب المستعملة ليست «كتبا من الدرجة الثانية»، بل شهادات ورقية على مسارات فكرية وتاريخية حافلة. ودول الخليج، بما فيها من زخم ثقافي متنام، مدعوة لاحتضان هذا النوع من المكتبات وتكريمه بجناح خاص في معارضها، تقديرا للمعرفة في كل أشكالها وتجلياتها.
في زمن الرقمنة والتسارع، قد تكون هذه المكتبات ملاذا لمن يريد أن يقرأ ليس فقط ما كتب، بل كيف كتب، ومتى، ولماذا.
gstmb123@hotmail.com