في كل مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني، كانت الشعوب تواجه تحديات جسيمة في سبيل استقرار مجتمعاتها والحفاظ على هويتها، حيث كانت تعاني من بعض مظاهر الاحتلال والاستعمار والتشويه الثقافي.
والشعوب القوية هي التي كان لديها دائما ما يصون كيانها ويحفظ روحها، لاسيما الهوية الوطنية. فلم تكن تلك الهوية مجرد شعارات تطلق أو رموز تتبع، بل كانت ذلك الإحساس العميق بالانتماء، والارتباط بالجذور، والتاريخ، والدين، واللغة، والثقافة الراسخة.
لهذا كانت الهوية الوطنية على مر العصور، السلاح الأعظم الذي يملكه الشعب، وكانت أقوى من السيوف والبنادق، لأنها تقاتل من أجل البقاء والاستمرار.
وتبدأ الهوية الوطنية للأفراد بالتشكل منذ الطفولة، عبر اللغة التي نتحدث بها، والتقاليد التي نمارسها، والتاريخ الذي نتعلمه بسلبياته وايجابياته وما يحمله من ارث حضاري للآباء والاجداد.
وعندما تتعرض الشعوب لخطر خارجي، يكون وعيها بهويتها هو الدرع الأول في وجه الذوبان أو الاضطهاد، فتتوحد في مواجهة المخاطر وتقديم التضحيات مهما عظمت.
ولو نظرنا إلى التاريخ، لوجدنا أن الشعوب التي حافظت على هويتها استطاعت أن تنتصر، حتى لو تأخر النصر، كما ان لها بصماتها ودورها في الحضارة الإنسانية وتقدم البشرية.
ففي پولندا مثلا، عندما قسمت البلاد بين الإمبراطوريات، لم يستسلم الشعب، فتمسك بهويته ولغته وثقافته، وكان من أبرز من ساهموا في هذا الصمود المثقفون والفنانون مثل ستانيسواف فيسبيانسكي، الذي حارب بالكتابة والمسرح، وذكر الپولنديين بأمجادهم ووحدة مصيرهم. وهذه القوة الثقافية والروحية مهدت الطريق للاستقلال بعد قرن من الاحتلال.
كذلك في العالم العربي، واجهت الشعوب الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وعلى الرغم من القهر والظلم الا انها حافظت على لغتها ودينها وتقاليدها، وكان ذلك أقوى من كل محاولات الطمس والتهجين التي اتبعها المستعمرون.
الهوية الوطنية ليست فقط ما نرثه من الماضي، بل هي أيضا مسؤوليتنا اليوم. في زمن العولمة والانفتاح الثقافي، وان كان التمسك بالهوية أحيانا أصعب، لكنه أكثر أهمية. فبدون وجود الهوية الوطنية، يتحول الشعب إلى مجرد تابع، يفقد قدرته على تقرير مصيره أو حماية مصالحه.
وتاريخيا، إن الشعوب التي تفقد هويتها، تفقد بوصلتها، وتصبح سهلة الانقياد. أما الشعوب التي تدافع عن هويتها، فهي وإن ضعفت ماديا، تبقى قوية روحيا ومعنويا، قادرة على النهوض من جديد.
لهذا، فالهوية الوطنية ليست سلاحا عاديا بل هي السلاح الأعظم في التاريخ، لأنها تحفظ كيان الأمة، وتصنع رجالها، وتبني مستقبلها، وعلينا جميعا تقع مسؤولية الحفاظ على هويتنا وصفائها واستمرار تجذرها في قلوبنا وعقولنا.