بيروت ـ داود رمال
من جديد، تتقدم النيران على أي مسعى ديبلوماسي لوقف التصعيد في جنوب لبنان. فمنذ زيارة الموفد الأميركي توماس باراك إلى بيروت، وما تسرب عن إبلاغه المسؤولين اللبنانيين خارطة طريق لاستكمال تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية، بدا واضحا أن إسرائيل قررت الرد على المقترحات السياسية بمزيد من القصف، وبالذات في المناطق الواقعة شمال الليطاني، التي يفترض أن تكون خارج نطاق الاستهداف بحسب القرار 1701. إلا أن تكثيف الغارات في هذه المنطقة، يطرح أسئلة مقلقة حول نيات إسرائيل الفعلية، ويكشف أن المقاربة المعتمدة من قبلها لم تتغير: الميدان أولا، والسياسة تابعة له.
من الواضح أن إسرائيل تسعى من خلال هذا التصعيد إلى فرض شروطها على طاولة التفاوض غير المعلنة، مستخدمة الغارات كأداة ضغط مسبقة لانتزاع تنازلات أمنية، لاسيما فيما يتعلق بتفكيك الهيكل العسكري لـ «الحزب»، وهي بذلك لا تفاوض عبر القنوات الرسمية أو لجنة الرقابة الخماسية، بل تختار التفاهم على طريقتها، أي عبر القصف المتواصل والمتدرج، عله يحسم مسبقا نتائج أي مفاوضات محتملة أو يرسم سقوفها.
المفارقة، بحسب مصدر سياسي، «أن الغارات الإسرائيلية لا تفسر فقط كتصعيد عسكري، بل أيضا كتعطيل مقصود لمهمة لجنة المراقبة المنبثقة عن اتفاق وقف الأعمال العدائية أو حتى للجنة الثلاثية العسكرية التي تشكلت بعد صدور القرار 1701 عام 2006. وبات من شبه المستحيل الحديث عن تقدم في تنفيذ أي بند من بنود خارطة الطريق الأميركية، طالما أن إسرائيل تبقي جنوب لبنان برمته تحت النار، وتكسر قواعد الاشتباك المتوافق عليها سابقا، من دون أي التزام فعلي بوقف الأعمال العدائية».
تظهر إسرائيل وكأنها تستبق تنفيذ الاتفاق بمحاولة فرض أمر واقع على الأرض، فيما المطلوب دوليا أن تنجز تفاهمات تؤدي إلى تثبيت الهدوء وإبعاد خطر الانزلاق إلى حرب شاملة. والمقلق أن هذا التصعيد المتعمد قد يؤدي إلى نسف ما تبقى من فرص لاحتواء الوضع، ويسقط كل الجهود التي تبذلها الأطراف الوسيطة، وعلى رأسها واشنطن، لوضع حد لهذا النزاع المتدحرج.
وبينما ينظر الجانب اللبناني إلى زيارة باراك باعتبارها خطوة نحو وقف النار وعودة الاستقرار، تأتي الغارات، وفق المصدر، «لتكرس منطقا مختلفا: إسرائيل لا تريد فقط وقفا للأعمال العدائية، بل تريد أن تعيد رسم المشهد الأمني والسياسي على طريقتها، وتستخدم القصف الجوي لتقويض المعادلات السابقة. والمفارقة أن هذا السلوك، بدل أن يسرع الاتفاق، يؤججه من جهة، ويفقد المساعي الدولية مصداقيتها من جهة أخرى».
في هذا المناخ، تبدو مهمة لجنة المراقبة معقدة للغاية. فكيف يمكن مراقبة تنفيذ اتفاق، والخرق يأتي من طرف يملك الأجواء ويمعن في القصف والخروقات البرية والبحرية والجوية؟ وكيف يمكن لأي تفاوض أن ينجح، إذا كانت إسرائيل تعتبر النار وسيلتها الوحيدة لفرض الشروط؟ كل ذلك يجعل من التصعيد الجاري ليس مجرد تطور ميداني، بل جزءا من استراتيجية تفاوض بالنار، من شأنها أن تجهض أي أمل بالتوصل إلى حل مستدام في الجنوب.