كونمينغ - غوانشو: محمد بدري عيد
«168 ساعة في الصين» لم تكن كافية للإحاطة الكاملة بهذا البلد العظيم صاحب الحضارة العريقة، لكن هذه الفترة الزمنية رغم قصرها كانت في الوقت ذاته كافية لتوليد قناعة لدى المرء بأن هذا البلد المعتز بتاريخه الممتد والمتمسك بهويته الثقافية والوطنية يخطو بثبات وثقة نحو الإمام، لينبئ بأنه سيكون «أرض المستقبل».
«168 ساعة» في جنوبي جمهورية الصين الشعبية مرت كلمح بالبصر بين مقاطعتي يونان وغوانشو في الفترة من 5 إلى 13 سبتمبر 2025، ما بين مشاركة في منتدى إعلامي ـ علمي ولقاء قامات جامعية وتعليمية وزيارة أماكن تراثية ومعالم سياحية.
استضافت مدينة كونمينغ بمقاطعة يونان في جمهورية الصين الشعبية أعمال وفعاليات الدورة الثانية لمنتدى الإعلام ومراكز الابحاث في الجنوب العالمي 2025، تحت شعار «تمكين الجنوب العالمي والتكيف مع التغيرات الدولية»، وذلك خلال الفترة من 5 إلى 9 الجاري.
وجمع المنتدى، الذي تم تنظيمه بالشراكة بين وكالة أنباء «شينخوا» واللجنة الإقليمية للحزب الشيوعي الصيني وحكومة مقاطعة يونان، نحو 500 مشارك يمثلون أكثر من 260 مؤسسة إعلامية ومراكز فكر وهيئات حكومية من 110 دول، إضافة إلى ممثلين لمنظمات دولية وإقليمية، بما في ذلك: الأمم المتحدة ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والاتحاد الأفريقي.
منتدى حاشد في «مدينة الربيع»
ومثلت هذه النسخة الثانية من المنتدى في كونمينغ المعروفة بـ «مدينة الربيع» منصة رئيسية للحوار الواسع والنقاشات المتعمقة، بين المشاركين من الخبراء والباحثين والإعلاميين، حول سبل تعزيز دور الإعلام والمراكز البحثية في توحيد رؤى الدول النامية، وتعظيم صوتها، وتعميق التعاون فيما بينها، ودعم التعلم المتبادل، بما يعزز «صوت دول الجنوب»، لتكون قوة دافعة للسلام العالمي والتعلم والفهم المتبادل بين الحضارات، من خلال احترام التنوع الحضاري وتيسير التواصل الثقافي والمودة بين الشعوب، على نحو يسهم في تقديم رؤية أشمل لمستقبل مشترك زاهر لمختلف دول العالم.
وناقشت جلسات المنتدى قضايا عدة ذات صلة بموضوع هذه النسخة من المنصة الحوارية، بما في ذلك: إستراتيجيات الإعلام العالمي، وتحولات الذكاء الاصطناعي وتأثيراتها الإعلامية والبحثية، وحوار التراث العالمي، وأطر تعاون الجنوب ـ الجنوب في مجال الفكر والتخطيط الإستراتيجي.
وشدد المنتدى على المسؤولية التاريخية الكبيرة الملقاة على عاتق وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والفكر في دعم الجنوب العالمي عبر تقاسم الخبرات والمعارف، ويشمل ذلك: تبادل التدريب، وإنتاج محتويات إعلامية تعتمد على تكنولوجيا خاصة الذكاء الاصطناعي، بما يؤثر في صنع السياسات والقرارات العامة.
وأكد أهمية الدمج بين السردية الأكاديمية لمراكز الأبحاث ونظيرتها الإعلامية. وجاء منتدى الجنوب العالمي 2025 متمما لمبادرة الحوكمة العالمية التي طرحها الرئيس الصيني شي جينبينغ أثناء ترؤسه اجتماع «منظمة شانغهاي للتعاون بلس» الذي عقد في مدينة تيانجين شمالي الصين، حيث عقدت المنظمة أكبر قمة في تاريخها الممتد على مدى 24 عاما، بمشاركة قادة أكثر من 20 دولة ورؤساء 10 منظمات دولية.
وكان الرئيس شي قد دعا دول المنظمة إلى العمل معا من أجل نظام حوكمة عالمية أكثر عدلا وإنصافا.
وتعد مبادرة الحوكمة العالمية رابع مبادرة عالمية كبرى يقترحها الرئيس الصيني خلال السنوات الماضية، بعد مبادرات: التنمية العالمية، والأمن العالمي، والحضارة العالمية. وهي المبادرات التي تؤكد كون الصين داعمة بقوة لدول الجنوب العالمي. وقد سلط شي الضوء على خمسة مبادئ لمبادرة الحوكمة العالمية، وهي: الالتزام بالمساواة في السيادة، والامتثال للسيادة الدولية للقانون، والتعددية، والدعوة إلى نهج يركز على الشعوب، والتركيز على اتخاذ إجراءات فعلية في هذا الخصوص.
وشدد على ضرورة حماية مكانة الأمم المتحدة وصلاحياتها، مؤكدا أنه يتعين ضمان أن تلعب دورا قياديا، وأن تصبح نموذجا في تنفيذ مبادرة الحوكمة العالمية، وأن تظل قوة استقرار في العالم المضطرب الذي يواجه تحديات جمة.
وقال الرئيس الصيني إن جميع الدول، بغض النظر عن حجم وقوة وثروة كل منها، شركاء متساوون وصناع قرار ومستفيدون من الحوكمة العالمية. كما حث على بذل الجهود لمعالجة التحديات المشتركة التي تواجه البشرية، وتضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، وحماية المصالح المشتركة لجميع البلدان بشكل أفضل.
وتتمثل مبادئ الحوكمة العالمية في: التشارك الكامل، التمسك بالسيادة الوطنية، تقاسم المصالح المشتركة، تطبيق مبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
وخلال جلسات مراكز الأبحاث ضمن منتدى الجنوب العالمي عرض معهد «شينخوا» التابع لوكالة أنباء «شينخوا» تقريرا مفصلا تحت عنوان «الإجابة على أسئلة زماننا: الأهمية العالمية والقيمة العملية للمنتجات الفكرية العامة للصين».
وذكر التقرير أن الصين زادت بانتظام من عرض المنتجات الفكرية العامة العالمية، وأنشأت تدريجيا نظاما يشمل أبعادا عدة تؤكد على: بناء نظام دولي متوازن متعدد الاقطاب والتنمية الوطنية والقيم الإنسانية المشتركة.
وأشار معهد شينخوا في تقرير آخر إلى ظواهر دولية سلبية، من قبيل: «الاستعمار المعرفي والإدراكي»، و«التنمر الدولي في السلوك السياسي العالمي المعاصر».
وقد أكد المشاركون، عبر جلسات المنتدى، أن «الجنوب العالمي» يقدم منظورا جديدا للتعاون وتعددية الأطراف بما يحقق التوازن المطلوب في العلاقات الدولية، ويمكن جعل الجنوب قوة رئيسية في تحقيق السلام وتطوير الحوكمة العالمية. وأشاروا إلى أن دول الجنوب العالمي تمتلك مزايا عدة، منها: الأسواق الواسعة، والموارد الطبيعية والبشرية، مشددين على ان هذه المزايا تزيد من تنافسية دول الجنوب وتؤهلها للقيام بدور مركزي ومؤثر على الصعيد الدولي.
هذا، وشهد منتدى «الجنوب العالمي» إطلاق شبكة شراكة التواصل المشترك للجنوب العالمي التي بادرت باقتراحها وكالة أنباء «شينخوا» لأول مرة في نوفمبر 2024.
وتضم الدفعة الأولى من هذه الشبكة أكثر من 1000 من وسائل الإعلام ومراكز البحوث ومؤسسات أخرى من 95 دولة ومنطقة عبر الجنوب العالمي. ومن المتوقع أن تقوم شبكة التواصل المشترك، التي اقترحتها «شينخوا» عام 2024، بتنفيذ التعاون بناء على منصتين، هما: منتدى وسائل الإعلام ومراكز البحوث بالجنوب العالمي، وشبكة الأخبار الإعلامية بالجنوب العالمي.
ومن المقرر أن تعقد الشبكة سلسلة من الاجتماعات الدولية والإقليمية، وندوات مهنية، وجلسات تدريب خاصة، ومعارض صور وأنشطة أخرى، فضلا عن إطلاق مشاريع للتعاون الإبداعي، وإصدار تقارير مراكز البحوث ومبادرات خاصة.
وكانت النسخة الأولى من منتدى صوت الجنوب العالمي قد عقدت في شهر نوفمبر 2024 بمدينة ساو باولو في البرازيل.
البساطة الجذابة.. و«أساتذة الشاي»
على بعد كيلومترات قليلة من مكان انعقاد منتدى «الجنوب العالمي» تفقدنا بلدة «ميل»، وهي إحدى قرى كونمينغ، التي تشتهر بالمساحات الخضراء الواسعة والمناظر الطبيعية الرائعة ذات البساطة الجذابة، حيث يلاحقك اللون الأخضر في كل مكان سواء داخلها أو في الطريق إليها، وهو ما يعكس اهتماما كبيرا ولافتا بالبيئة النظيفة، كما تشتهر «ميل» بالمواقع السياحية والتراثية الآثرة.
ويشعر الزائر لـ «ميل» ببهجة وأمان كبيرين منذ وصوله لهذه البلدة، حيث يرحب به أهلها ـ مثل غالبية بلدات كونمينغ ـ بمراسم تراثية غنائية تفيض دفئا ومودة.
وغير بعيد من بلدة «ميل»، تقع مدينة غواندو ذات الإطلالة التاريخية المميزة.
وفي سياق متصل، عقدت على هامش منتدى «الجنبو العالمي» أمسية ثقافية جمعت بين التاريخ والهوية، استعرضت مراحل تطور الشاي الصيني، وأنواعه، وفن إعداد كوب من الشاي من قبل ذوي الخبرة الذين يطلق عليهم «أساتذة الشاي» أو Tea Masters.
وقد صاحب هذه الأمسية موسيقى رائعة بالآلات الكلاسيكية، مثل: الناي الصيني بنغماته الشهيرة.
غوانشو.. مدينة «الزهور والطعام»
الزهور بأشكالها المتنوعة وألوانها الزاهية هي المنظر المألوف والمشهد دائم الحضور في شوارع وأرجاء مقاطعة غوانشو وضواحيها، لذلك استحقت اسم «مدينة الزهور».
كما تتسم هذه المقاطعة التجارية المهمة، التي كانت تعرف قديما باسم «كانتون»، بمطاعمها المتنوعة التي تعكس ثقافات شعوب مختلفة، حيث تنتشر الأكلات العربية والتركية والأفريقية الشهيرة.
ويتوافد سكان المدينة من الأجانب والصينيين، وكذلك من السياح القادمين من مختلف دول العالم، على مطاعم «غوانشو» ليلا ونهارا على مدار الأسبوع، حيث يطلق عليها كثيرون اسم «مدينة الطعام»، وذلك فضلا عن لقبها الأصلي «مدينة الزهور».
ويعتبر Dim Sum، الذي يعني «لمس القلب»، أشهر طبق على مائدة أهل مقاطعة غوانشو (المعروفين بالكانتونيس)، وهو عبارة عن أنواع متنوعة من الأطباق الصغيرة، مثل: الزلابية المطبوخة على البخار، والمأكولات المقلية، والخبز مصحوبا بالشاي الصيني التقليدي بنكهاته الرائعة، وعادة ما يقدم هذا الطعام في وقت الغداء، وغالبا ما يتم تناول هذه الحصص الصغيرة والمتنوعة من الطعام بين العائلة والأصدقاء في أجواء اجتماعية تتسم بالمودة والسرور وتجاذب أطراف الحديث. ولم تكن لتكتمل روعة الجولة في جنوب الصين إلا بزيارة معرض التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي التابع لإحدى مجموعات السيارات الصينية الكبرى، إضافة إلى لقاء كوكبة من العلماء والأساتذة في حرم جامعة غوانشو للدراسات الدولية.
وقد نظمت الجامعة معرضا بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى الـ 60 لتأسيسها، حيث تم إلقاء الضوء على مسيرتها الأكاديمية والعلمية على مدار 6 عقود، وأهم الإنجازات التي تحققت خلال هذه الفترة الزمنية، وأبرز الشخصيات التي تخرجت بالجامعة وتقلدت مناصب رسمية رفيعة المستوى في الصين.
«إعلان يونان ـ الصين سبتمبر 2025م» لمنتدى وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث في الجنوب العالمي
٭ نحن نؤمن بأن دول الجنوب العالمي قد حافظت لفترة طويلة على السلام والأمن وهي تظهر كقوة بناءة لا غنى عنها في المجتمع الدولي. ويجب على وسائل الإعلام ومراكز الفكر من الجنوب العالمي أن تستفيد بشكل كامل من دورنا كجسور، وتعزز توافقا واسعا، وتتحدث بصوت عادل، وتسهم بالحكمة والقوة في تعزيز تمثيل وصوت الجنوب العالمي في الحوكمة العالمية، وكذلك في تعزيز السلام والاستقرار العالمي.
٭ نحن نعتقد أن دعم التعددية الحقيقية وتحسين الحوكمة العالمية يخدمان المصالح المشتركة للدول النامية. ويجب أن تتبنى وسائل الإعلام ومراكز الفكر من الدول النامية القيم المشتركة للإنسانية، وتحتضن رؤية للحوكمة العالمية تتميز بالتشاور الواسع، والمساهمة المشتركة، والمنافع المشتركة، وأن ترفع صوتا قويا في زمننا: الوحدة على الانقسام، التعاون على المواجهة، والعدالة على الهيمنة. معا، يجب أن نعمل على توجيه النظام الدولي نحو مزيد من المساواة والعدالة.
٭ نحن نؤمن أن الحداثة هي طموح مشترك لبقية العالم. وفي مواجهة تغييرات عظيمة لم تشهد مثلها منذ قرن، يجب أن تروي وسائل الإعلام ومراكز الفكر من الدول النامية ـ وهي قوى رئيسية في دفع التنمية ـ قصصا حية عن التكامل الاقتصادي والنمو المتصل والازدهار المشترك بين أممنا. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا أن نساهم في التنمية والازدهار عبر الدول ونتقدم معا على طريق الحداثة.
٭ نحن نؤكد أن دول الجنوب العالمي، بما لديها من تقاليد تاريخية غنية وتراث ثقافي عميق، تمتلك إمكانات هائلة للتعلم المتبادل والتبادلات بين الحضارات العالمية. وينبغي على وسائل الإعلام والمراكز الفكرية من الجنوب العالمي أن تدعو معا إلى احترام التنوع الحضاري، وأن مسؤولياتنا الحيوية في الحفاظ على الاستمرارية الثقافية، وتيسير التواصل الثقافي، وتعزيز التبادلات الثقافية. سنقوم بدعم مبادرات مثل: برنامج جولة التراث العالمي، وتشجيع التعايش الشامل بين الحضارات المختلفة، وتعزيز الفهم المتبادل الأعمق والمودة بين الشعوب في جميع أنحاء العالم.
٭ نحن ندرك أن التقدم السريع في الذكاء الاصطناعي يوفر لدول الجنوب العالمي فرصا جديدة للتنمية بالإضافة إلى المخاطر والتحديات غير المتوقعة. لذا يجب على وسائل الإعلام ومراكز الفكر من الجنوب العالمي استغلال تقنيات المعلومات من الجيل التالي لتطوير نماذج من التعاون المترابط بين البشر والآلات، وتعزيز التحول في ممارسات الاتصال، والبقاء ملتزمين بأخلاقيات الصحافة والمعايير المهنية. ومن خلال تقديم أخبار صادقة وموضوعية وشاملة وعادلة، يمكننا أن نتقدم معا نحو مستقبل ذكي ومبتكر لتطوير وسائل الإعلام.
٭ نحن واثقون من أن هذا المنتدى سيسهم في تعزيز الإجماع بين وسائل الإعلام ومراكز الفكر من الدول النامية، ويعمق التعاون العملي في مجالات عدة، مثل: تدريب الأفراد، والتقارير المشتركة، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. معا، سنعزز «صوت الدول النامية»، ونبرز «الالتزام بالدول النامية»، ونمكن الدول النامية كقوة من أجل السلام، وعمود مفتوح للتنمية، وقوة بناءة في الحوكمة العالمية، وقوة دافعة للتعلم المتبادل بين الحضارات.
«سي سيه».. شكراً الصين
جزيل الشكر وعظيم الامتنان لسفارة جمهورية الصين الشعبية ووزارة الخارجية الصينية ممثلة في مكتب الشؤون الخارجية بمقاطعة غوانشو، على الرعاية التامة والخاصة التي حظينا بها طوال مدة الزيارة.
والشكر والتقدير موصولان الى وكالة أنباء الصين (شينخوا) على رحابة الاستقبال والضيافة والتوديع خلال حضور فعاليات منتدى «تمكين الجنوب الصيني» بمدينة كونمينغ في مقاطعة يونان.
«سي سيه».. (تشاينا).
أقوال مأثورة على هامش المنتدى
كانت الحكمة والأقوال الصينية المأثورة حاضرة بقوة خلال جلسات منتدى الجنوب العالمي وفعالياته المختلفة، وحتى في امسياته الترفيهية.
اذ استعان كثير من المشاركين في كلماتهم بعدد من المأثورات، والتي من أبرزها:
٭ «اتحاد الإخوة» أقوى من الحديد وأثمن من الذهب.
٭ رحلة الحياة بمثابة فنجان من الشاي.
٭ كوب الشاي الصيني أكثر من مجرد استقبال للضيف بل هو جسر للود.
٭ الأمطار تستقبل الأبطال والشرفاء.
٭ ما لا تعرفه لن تألفه.. وما لم تألفه لن تتقنه.. وما لا تتقنه لن يدوم.