بيروت ـ أحمد منصور
لا يزال لبنان يعيش تحت وطأة وتداعيات الأزمة الاقتصادية والحرب الإسرائيلية المستمرة، حيث تخيم على المواطنين المخاوف من تجدد الحرب وأوزارها المدمرة، والتي كانت لها انعكاسات سلبية ومؤلمة على مجمل القطاعات، ومنها قطاع البناء، الذي يشهد اليوم ركودا كبيرا، بعد أن عاش عصرا ذهبيا لا مثيل له على مدى عشرات الأعوام الماضية.
ويشهد قطاع البناء تراجعا كبيرا جراء الأزمات المتتالية التي ضربت البلاد وأصابته في الصميم، حيث غابت أصوات الجرافات والشاحنات والحفارات عن المشهد الذي كنا نعهده سابقا، في القرى والبلدات والمدن، بعد أن كان هديرها يهز لبنان على طريق مسيرة البناء والإعمار. هذا المشهد وللأسف لم نعد نراه كما كنا سابقا، بعد أن خنق الدولار وتصاعده الجنوني مجمل المؤسسات والقطاعات و«شلها»، فتوقف العديد منها عن العمل، فيما لاتزال مؤسسات تنازع وتقف على شفير الهاوية، وقد طال أيضا قطاعات الدولة ووزاراتها.
ازاء هذا الواقع، أشار صاحب مؤسسة «الإقليم للبناء» المختار محمد اسماعيل لـ «الأنباء»إلى «أن التراجع في الحركة العمرانية، بدأ منذ العامين 2019 و2020، نتيجة هبوط قيمة العملة الوطنية بالنسبة إلى الدولار، وبالتالي تأثرت كل القطاعات، كقطاع التجارة والبنيان، بما فيها قطاع البناء الذي تأثر بشكل مباشر، كون مجمل مواد وأدوات البناء هي بالدولار الأميركي حصرا، وكذلك أجور العمال بالدولار».
وأضاف «أثناء جائحة كورونا التي ألزمت الناس بعدم الاختلاط، كان هناك شبه توقف عن العمل العمراني، وتأثر أيضا بالتراجع المستمر للعملة الوطنية مقابل الدولار الاميركي، خصوصا أن رواتب المواطنين (الموظفين) بقيت بالليرة اللبنانية، والتي لم تتجاوز الـ 150 دولارا، وهي باتت لا تكفي للمعيشة اليومية. ومع بداية العام 2023، بدأ المواطن يعتاد على الدفع بالدولار، على رغم الضائقة، واقتصرت حركة البناء على الترميم أو استكمال البناء ببطء، ثم تحسن الوضع مع بداية 2024، ومع بداية 2025 تحسنت حركة مبيع مواد البناء بنسبة 60% عما كانت عليه في الأعوام السابقة».
وتابع: «اقتصر 80% من البناء الجديد على المغتربين، الذين يتقاضون دخلهم بالدولار، ولديهم قدرة شرائية، ولكن بوتيرة ضعيفة وليس كالسابق. وأغلب الأشغال الجارية اليوم، هي أعمال تشطيب واستكمال البناء. اما بالنسبة إلى الابنية الجديدة، فنسبتها لا تزيد عن 20%، مقارنة مع الاعوام 2018 و2019 و2020».
وأردف «أما بالنسبة إلى المقاولين المتعاقدين مع الدولة، وما يتعلق بالأبنية الحكومية، فقد توقف العمل نهائيا معهم، لاسيما وان لهم مستحقات ومتأخرات على الدولة لم تدفعها لهم، كما لم تدفع فرق الأسعار. وبالتالي فإن غالبية المناقصات الحكومية قد توقفت حتى الـ 2024. ومع بداية 2025 عادت هذه المناقصات إلى وتيرتها، نتيجة مساعدات البنك الدولي والمساعدات الخارجية.»
من جهته أكد صاحب مؤسسة «العلمين للبناء والأدوات الصحية» جهاد نصر الدين لـ «الأنباء» أن «الأزمة الاقتصادية شلت لبنان وأنهكته، وكان لها تأثير سلبي وخطير على العديد من المؤسسات والقطاعات نتيجة التفلت الجنوني لسعر الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية».
وأشار نصر الدين إلى «ان حركة المبيع تراجعت بفعل ذلك إلى نسبة 50%، خصوصا مواد البناء»، معتبرا «أن جائحة كورونا والحرب الاسرائيلية على لبنان، كانتا بمثابة الضربة القاضية لهذا القطاع».
واكد «ان حركة المبيع خلال فترة كورونا توقفت، الا انها تحسنت في السنتين الماضيتين لتصل إلى حدود 50%، وهي تقتصر اليوم على «التصليحات» والترميم، بينما توقفت اعمال البناء كورش إعمار المنازل والمشاريع السكنية».
ولفت إلى «أن الوضع بعد الحرب الاسرائيلية لم يتحسن مقارنة مع الأعوام السابقة»، وأكد «أن الأسعار بقيت على حالها، ولكن بالدولار، وهذا كان سببا رئيسيا في تفاقم الأزمات، لاسيما وان المواطن اللبناني يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية، وهذا ما دفعنا نحن أيضا إلى وقف «الدفع بالتقسيط» بسبب ارتفاع الدولار، اذ يمتنع التجار عن تسليمنا البضاعة الا مقابل الدفع نقدا وبالدولار، بعد ان كنا ندفع بالشيكات. وعلى سبيل المثال، لا يزال طن الحديد على سعره ما بين 680 دولارا و700 دولار، وسعر الترابة الاسمنت بحدود الـ 100 دولار للطن الواحد، وكذلك أسعار الأدوات الصحية».
وأشار إلى «ان معظم ورش البناء توقفت، وهي محدودة وتقتصر على المغتربين والأشخاص الذين يختزنون المال، أو التجار الذين يمسكون زمام أمور البلاد. وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة ان الأموال التي استلمناها من الزبائن كانت تفوح منها رائحة العفونة والنفتالين، وهذا دليل على تخزين المال».
وتابع «العديد من المواطنين ولاسيما الموظفين، لم يعد بإمكانهم متابعة أعمال البناء بسبب الدولار وتراجع قيمة الرواتب».
ويبدي المواطنون تخوفا كبيرا نتيجة استمرار الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان، والتي تشكل الهاجس الأكبر لهم ولمسيرة البناء والإعمار.. وأعتقد انه في حال هدأت الأوضاع سينهض لبنان من جديد».
وأكد ان لبنان يرزح تحت وطأة كثافة سكانية «وقد عشنا فترة ذهبية قبل الأزمة الاقتصادية، فلبنان كان ورشة بناء كاملة، حيث هبت ورش البناء والمشاريع السكنية وغطت غالبية الأماكن وحتى باتت القرى والبلدات موصولة ببعضها بفعل البناء».
في موازاة ذلك، انعكست الأوضاع الاقتصادية الصعبة، سلبا على اليد العاملة. ففي لقاء مع عدد من أصحاب مهنة ورش البناء، كان لافتا ان معظمهم توقف عن العمل لعدم وجود ورش بناء، فمنهم من لجأ إلى أعمال أخرى لتأمين مصدر رزقهم ومعيشتهم، والبعض الأخر لا يزال عاطلا عن العمل في انتظار ان تتحسن الأوضاع، وهذا ما يزيد من الاعباء والمعاناة اللبنانية.