كنت شاهدا على أكثر من مجلس علم يضم مثقفين ودكاترة وباحثين، فوجدت بأسهم بينهم شديدا في «النقاش»، فتعلو أصواتهم، وتنتفخ أوداجهم، وقد يصل بهم الحال والجدال إلى درجة لا تحمد عقباها، من الخصام والتلفظ بألفاظ لا تليق، وقد يكون من بين الحضور أناس من العامة، فوجدتهم يجلسون بهدوء ووقار وسكينة يحسدون عليها.
تساءلت بيني وبين نفسي ألم يكن من الأفضل والأجدر بمن أعطاه الله المعرفة، وسلحه بالعلم، أن يتحلى بهذه الصفات ويكتسي بآداب العلماء والفضلاء. لماذا تخلق العوام من الناس بالهدوء وافتقده أولو النهى من البشر.
تساؤلات راودتني، وخواطر داهمتني، جعلتني أتفكر وأنظر للموضوع من عدة جوانب منها ما هو ظاهر بين، ومنها ما هو خفي مستتر.
الجانب الأول: عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله ﷺ: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا».
حينما تعلم أنك على حق، وأن ما تتحدث به صواب، تجد نفسك أحيانا لا تستطيع أن تمنع نفسك من الحديث، ولا أن تعقد على لسانك فلا تتكلم، لذلك جاء النهي عن الجدال والمراء وليس عن توضيح وتبيين الحقيقة. وقليل منا من يستطيع التخلق بهذا الخلق.
الجانب الثاني: عن وهب بن منبه «إن للعلم طغيانا كطغيان المال».
العلم يرفع مكانتك بين الناس، ويعلي قيمتك بين أقرانك، ويلبسك ثوب المهابة والوقار، فإذا تسلحت واعتددت به دون خوف ومراقبة الله عز جل، قد يسلب هذا العلم لبك، ويطيش به عقلك، فتكون بحالة من عدم الاتزان، تجعلك لا ترى من هو دونك شيئا، فلا تقبل رأي غيرك، ولا تحترم وجهة نظر أخرى.
الجانب الثالث: الجدال وما يتبعه من حب الظهور، وتصدر المجالس واكتساب الجولات، وأخذ قدم سبق بين الأقران، وأن يشار لك بالبنان والمعرفة والنباهة والفطانة، كلها عوامل ونوازع ورغبات تتملك أغلب البشر، فمن منا لا يريد أن يكون فريدا في مجاله أو مبدعا في فنه، أو متميزا في طرحه.
لذلك، حينما تطرح مسألة علمية ومبحث فقهي ينبري لها العارفون والعالمون بها فيشبعونها بحثا وتدقيقا وتمحيصا، وينزوي من ليس له سعة علم واطلاع خوفا من انكشاف أمره لقلة معرفته.
الجانب الرابع: حينما يكون الرجل عالما في فن من الفنون ومتبحرا فيه، ويعرف عجره وبجره، يكون مندفعا بهدف توضيح المسائل، ويعلو صوته لأجل ايصال الحقيقة، فهو يغلب جانب توضيح المسائل على مفسدة سوء أدبه، ويغلب جانب إيصال المعلومة على مفسدة سوء طريقته.
٭ معنى العجر والبجر «الأمر كله من هموم وأحزان، وقيل من العيوب الظاهرة والكامنة».
الجانب الخامس: من يلتزم الصمت في مجلس قد لا يلتزم به في مجلس آخر، وهذه مسألة لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار، فمن تجده هادئا مستكنا لا يشارك في حوار أو يتدخل في نقاش علمي، قد تجده بقمة الفوران والانفعال إن تحدث عن كرة القدم، أو شارك بألعاب الورق المختلفة، أو قد تجده بقمة اشتطاطه إن تحدث عن القنص أو مزاين الإبل أو غيرها من الهوايات.
فلا يكن حكمنا قاسيا على فئة من المجتمع في لحظة انفعال، ونحكم عليهم بحكم نهائي وننعتهم بأبشع النعوت.
asfor83@gmail.com