في يوم عرفة أعظم وأجل وأنقى وأتقى موقف، موقف بديع وموكب نوراني يتقدمه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عرفات ترتج بدعاء الصحابة الميامين، الأودية تدوي بتكبيرات الموحدين، وآهات المتأوهين، الرسول صلى الله عليه وسلم يناجي ربه وينطرح بين يديه، يصعد الجبل فيخطب في 120 ألفا من الصحابة، الجميع آذان مصغية لكلماته ونبراته التي كانت - بقدرة الله تعالى - تصل الى كل قلب قبل الآذان، رغم ضخامة العدد وجلال الموقف، ولم تكن هنالك مكبرات للصوت ولكن نسمات الريح كانت بإذن ربها تتبختر فرحا، وهي تطير بعذوبة الكلمات النبوية، فتلامس بها جميع الأسماع، وتطرق بها القلوب المتعطشة.
في هذه الأثناء، وفي زحمة هذا الموقف الخالد، تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية من أعظم الآيات، ودرة من أغلى الدرر، ومنة من أعظم المنن، ولكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها نعيه صلى الله عليه وسلم الذي فهمه أهل الفهم والإلهام، ينزل عليه قول الله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة: 3) هنا ينتفض فاروق الأمة عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم. وتأخذه الرعشة، وتخنقه العبرة، فتسيل دموعه مدرارا!
لماذا يبكي عمر؟ إنها آية رائعة، ومنة من الله عظيمة، وكلام يثلج الصدور! حقا انه موقف غريب! تعجب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهمس في أذن صاحبه وفاروقه: «مما يبكيك يا عمر؟» فكفكف عمر دموعه، ويمسح عبراته، ويجيب - ولصدره أزيز ونشيج - يا رسول الله، أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص.